معلوم أن كلَّ دولة لها شعار يميزها، وكذلك كل هيئة ومؤسسة وشركة ومصنع، الجميع يتخذ لنفسه شعاراً ينطق به، وهو العلامة التي تدل عليه، وفي هذا قال أبو الدرداء: لكل شيء شعار، وشعار الصلاة التكبير(1)، أما شعار الحج فهو التلبية،
عن عبدالرحمن بن يزيد قال: التلبية شعار الحج، فأكثروا من التلبية عند كل شرف وفي كل حين، وأكثروا من التلبية وأظهروها(2)، فمن طبيعة الشعار أن ترتفع به الأصوات، وفي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «جاءَني جبريلُ فقالَ يا محمَّدُ: مُر أصحابَكَ فليَرفَعوا أصواتَهُم بالتَّلبيةِ فإنَّها مِن شعارِ الحجِّ»(3)،
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكد أن من أفضل أعمال الحج أن يرفع المسلم صوته بالتلبية، فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل عن أفضل الحج فقال: «أفضلُ الحجِّ العَجُّ والثَّجُّ»(4)؛ والعج أنْ يَجهَرَ المُلبِّي بالتَّلبيةِ، ويَرفَعَ بها صوتَهُ، وهي: «لبَّيْكَ اللَّهمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شَريكَ لك لبَّيْكَ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك»، والثج ذَبحُ الهَدْيِ والأَضاحيِّ.
والناظر في شعار التلبية يجد أنها إعلان صريح من العبد بتمام الاستجابة لله تعالى، فهي تعني إجابة بعد إجابة وطاعة بعد طاعة، وهذا الإعلان ممزوج بصدق الإحساس، ويدل على ذلك أن الحاج يتحمل أعباء السفر وترك الوطن ويأتي بأفعال تدل على الانقياد التام لله تعالى، ويفعل ذلك وهو في غاية الفرح والسرور، لأنه يطيع الله تعالى في أسمى الأماكن وأرقى البقاع وبأقدس العبادات.
كما أن شعار التلبية ينطوي على معاني الإخلاص والخضوع لله تعالى وحده لا شريك له، فقد نصت التلبية على نفي الشريك تماماً في هذه العبادة، وذلك في قولنا: «لا شريك لك»، ونفي الشريك علامة على إخلاص القلب لله تعالى ودليل على قبول العبادة، حيث قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف: 110).
وهكذا يتبين لنا أن شعار التلبية يلفت أنظارنا إلى أمرين:
الأول: كمال الاستجابة للعمل الصالح.
الثاني: نفي الشريك لله في الأعمال.
وهذان الأمران عليهما مدار التكاليف الشرعية وقبول الأعمال، فإذا أمر الله تعالى بأمر وجب على المسلم أن يسمع ويطيع، وفي هذا كمال الاستجابة، حيث قال تعالى: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور: 51)، وفي أثناء السمع والطاعة لا بد أن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى خالياً عن الشرك، فالله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك.
التلبية منهج في الحياة
إذا كانت التلبية في الحج هي الشعار السائد والعلامة المميزة للاستجابة والطاعة الخالصة لله تعالى؛ فإن الغاية من هذه التلبية أن يتحقق المسلم بها فيما أمره الله به في جميع شؤون حياته، فكما ينتقل بين المناسك ملبياً؛ فإن عليه أن ينتقل بين العبادات والطاعات ملبياً، بنفس شروط التلبية، وهي كمال الاستجابة مع نفي الشريك.
وإن الملبي في الحج أو في غير الحج معلناً الطاعة بعد الطاعة والاستجابة بعد الاستجابة والإخلاص الكامل لله تعالى يشارك الكون كله وينسجم من مخلوقات الله عز وجل منتظماً في سلك العابدين لله تعالى، فقد روى الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن مُسلمٍ يُلبِّي إلَّا لبَّى مَن عن يَمينِه وشِمالِه، مِن حَجَرٍ، أو شَجرٍ، أو مَدَرٍ، حتَّى تَنقطِعَ الأرضُ مِن هاهنا وهاهنا»، فالكون كله يلبي، والكون كله يسبح لله تعالى؛ (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) (الإسراء: 44).
وقد جمع الإمام ابن القيم عدداً من المعاني التي اشتمل عليها شعار التلبية، حيث قال(5): وقد اشتملت كلمات التلبية على قواعد عظيمة وفوائد جليلة:
إِحْدَاهَا: أَنَّ قَوْلك لَبَّيْكَ يَتَضَمَّن إِجَابَة دَاعٍ دَعَاك وَمُنَادٍ نَادَاك، وَلَا يَصِحّ فِي لُغَة وَلَا عَقْل إِجَابَة مِنْ لَا يَتَكَلَّم وَلَا يَدْعُو مِنْ أَجَابَهُ.
الثَّانِيَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْمَحَبَّة، فلَا يُقَال لَبَّيْكَ إِلَّا لِمِنْ تُحِبّهُ وَتُعَظِّمهُ، وَلِهَذَا قِيلَ فِي مَعْنَاهَا أَنَا مُوَاجِه لَك بِمَا تُحِبّ، وَأَنَّهَا مِنْ قَوْلهمْ اِمْرَأَة لَبَّة أَيّ مَحَبَّة لِوَلَدِهَا.
الثَّالِثَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن اِلْتِزَام دَوَام الْعُبُودِيَّة، وَلِهَذَا قِيلَ هِيَ مِنْ الْإِقَامَة أَيّ أَنَا مُقِيم عَلَى طَاعَتك.
الرَّابِعَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْخُضُوع وَالذُّلّ، أَيّ خُضُوعًا بَعْد خُضُوع مِنْ قَوْلهمْ: أَنَا مُلَبٍّ بَيْن يَدَيْك أَيّ خَاضِع ذَلِيل.
الْخَامِسَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِخْلَاص، وَلِهَذَا قِيلَ إِنَّهَا مِنْ اللُّبّ وَهُوَ الْخَالِص.
السَّادِسَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن الْإِقْرَار بِسَمْعِ الرَّبّ تَعَالَى، إِذْ يَسْتَحِيل أَنَّ يَقُول الرَّجُل لَبَّيْكَ لِمِنْ لَا يَسْمَع دُعَاءَهُ.
السَّابِعَة: أَنَّهَا تَتَضَمَّن التَّقَرُّب مِنْ اللَّه، وَلِهَذَا قِيلَ: إِنَّهَا مِنْ الْإِلْبَاب وَهُوَ التَّقَرُّب.
الثَّامِنَة: أَنَّهَا جَعَلَتْ فِي الْإِحْرَام شِعَارًا لِانْتِقَالِ مِنْ حَال إِلَى حَال وَمِنْ مَنْسَك إِلَى مَنْسَك، كَمَا جَعَلَ التَّكْبِير فِي الصَّلَاة سَبْعًا لِلِانْتِقَالِ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن، وَلِهَذَا كَانَتْ السُّنَّة أَنْ يُلَبِّي حَتَّى يَشْرَع فِي الطَّوَاف فَيَقْطَع التَّلْبِيَة ثُمَّ إِذَا سَارَ لَبَّى حَتَّى يَقِف بِعَرَفَة فَيَقْطَعهَا ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَقِف بِمُزْدِلَفَةَ فَيَقْطَعهَا ثُمَّ يُلَبِّي حتى يرمي جمرة العقبة فيقطعها، فَالتَّلْبِيَة شِعَار الْحَجّ وَالتَّنَقُّل فِي أَعْمَال الْمَنَاسِك، فَالْحَاجّ كُلَّمَا اِنْتَقَلَ مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن قَالَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، كَمَا أَنَّ الْمُصَلِّي يَقُول فِي اِنْتِقَاله مِنْ رُكْن إِلَى رُكْن اللَّه أَكْبَر، فَإِذَا حَلَّ مِنْ نُسُكه قَطَعَهَا كَمَا يَكُون سَلَام الْمُصَلِّي قَاطِعًا لِتَكْبِيرِهِ.
التَّاسِعَة: أَنَّهَا شِعَار لِتَوْحِيدِ مِلَّة إِبْرَاهِيم، الَّذِي هُوَ رُوح الْحَجّ وَمَقْصِده، بَلْ رُوح الْعِبَادَات كُلّهَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا، وَلِهَذَا كَانَتْ التَّلْبِيَة مِفْتَاح هَذِهِ الْعِبَادَة الَّتِي يَدْخُل فِيهَا بِهَا.
الْعَاشِرَة: أَنَّهَا مُتَضَمِّنَة لِمِفْتَاحِ الْجَنَّة وَبَاب الْإِسْلَام الَّذِي يَدْخُل مِنْهُ إِلَيْهِ، وَهُوَ كَلِمَة الْإِخْلَاص وَالشَّهَادَة لِلَّهِ بِأَنَّهُ لَا شَرِيك لَهُ.
الحادية عشرة: أنها مشتملة على الحمد لله الذي هو مِن أحبِّ ما يَتَقرَّب به العبدُ إلى الله، وأول من يُدعَى إلى الجنة أهلُه، وهو فاتحة الصلاة وخاتمتها.
الثانية عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف لله بالنعمة كلِّها، ولهذا عرَّفها باللام المفيدة للاستغراق، أي النعم كلها لك ومنك، وأنتَ موليها والمُنْعِم بها.
الثالثة عشرة: أنها مشتملة على الاعتراف بأن المُلْك كلَّه لله وحده، فلا مُلك على الحقيقة لغيره.
الرابعة عشرة: أن هذا المعنى مؤكَّد الثبوت بـ«إنَّ» المقتضية تحقيق الخبر وتثبيته، وأنه مما لا يدخله ريبٌ ولا شكّ.
الخامسة عشرة: أنها متضمِّنة للإخبار عن اجتماع المُلْك والنعمة والحمد لله عز وجل، وهذا نوعٌ آخر مِن الثناء عليه، غير الثناء بمفردات تلك الأوصاف العَليَّة.
السادسة عشرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل ما قُلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»، وقد اشتملت التلبيةُ على هذه الكلمات، وتضمَّنت معانيها.
السابعة عشرة: أن كلمات التلبية متضمِّنة للردِّ على كلِّ مُبطِل في صفات الله وتوحيده.
الثامنة عشرة: في عطف المُلك على الحمد والنعمة لطيفة بديعة، وهي: أن الكلام يصير بذلك جملتين مستقلّتين، «له الملك، وله الحمد»، ولم يقل: له الملك والحمد، وفائدته تكرار الجُمَل في الثناء على الله.
التاسعة عشرة: لمَّا عَطَف النعمةَ على الحمد ولم يفصل بينهما بالخبر، كان فيه إشعار باقترانهما وتلازمهما، وعدم مفارقة أحدهما للآخر، فالإنعام والحمد قرينان.
العشرون: في إعادة الشهادة له بأنه لا شريك له لطيفة، وهو: أنه أخبر أنه لا شريك له عقب إجابته بقوله «لبيك»، ثم أعادها عقب قوله: «إنّ الحمدَ والنعمةَ لك والملك لا شريكَ لك»، وذلك يتضمَّن أنه لا شريك له في الحمد والنعمة والملك.
والناظر في هذه المعاني كلها يجد أنها تجسد الإخلاص لله تعالى والثناء عليه والاستجابة له في جميع الأحوال والأوقات.
_____________________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (3/ 6).
(2) المرجع السابق (8/ 493).
(3) أخرجه أبو داود (1814)، والترمذي (829)، وابن ماجه (2922).
(4) صحيح الجامع (1101).
(5) تهذيب سنن أبي داود (1/ 336).