لقد كان من أهم أسباب هزيمة 5 يونيو 1967م عزلُ الشعب في البلاد العربية وتعبيدُه وإهمالُ إعداده مادّياً ومعنويّاً لممارسة حقّه وواجبه في معركة المصير، وقتلُ روح الجهاد فيه بمختلف الوسائل.
ولقد كان من أهم أسباب النكبة الأولى عام 1948م عزلُ الشعب في فلسطين عن قضيته وقضية العرب والمسلمين، وإقصاءُ رجاله، وحلُّ منظماته، وسحب الأمور من يديه، وفرض الوصاية عليه وعلى القضية كلّها من قبل الجامعة العربية حتى انتهت الأمور إلى النكبة.
ولقد صمد إخواننا الفلسطينيون قبل ذلك للصهيونية العالميّة والاستعمار البريطانيّ 30 عاماً لم يخنعوا فيها ولم يستسلموا لما تريده الصهيونيّة والاستعمار، وقاوموا بإمكاناتهم المحدودة هذه القوى الغاشمة أشدّ مقاومة، وأوشكوا أن يسيطروا على فلسطين كلّها في ثوراتهم المجيدة عام 1936 و1938 و1939م، وقدّموا ألوف الشهداء، وألوف الجرحى، ولم يزلزلهم نسف البيوت، وتهديم الأحياء والقرى، وخسارة الأموال.
وبعد نكبة 1948م تحوّلَ معظم الفلسطينيين إلى «لاجئين»، وازداد عزلُهم وعزلُ الشعب العربي كلّه عن التأثير الحقيقيّ في القضية، حتى كانت النكّبةُ الأكبر في 5 يونيو وما تلاه من أيام ثمرةً لهذا وغيره من الأخطاء والانحرافات والخيانات.
وقبل الخامس من يونيو، وفي جوٍّ من الإحساس العميق بالخطر المحدّق، والرؤية الصادقة لحقائق الأمور من وراء أستار التضليل، والوعيّ القويّ لوضع القضيّة وتراجعها المستمرّ على كلّ صعيد، وعقم الأساليب المتبعة في معالجتها، وعدم جدّيتها.. في هذا الجوّ وُلِدَ العمل الفدائي، وبدأ الطريق الصحيح في العمل، منطلقاً من إيمان الشعب العميق، معبّراً عن إرادته التي لا تقبل المساوماتِ والخداعَ السياسيّ، وفُتِحت مرة أخرى صفحةُ الجهاد والاستشهاد رغم كلّ العقبات والتحديات.
ونمت المقاومة المسلحة في الأرض المحتلة بعد الخامس من يونيو، وأصبحت بعد الهزيمة الرسميّة رمز الصمود والأمل، وصيحة الكفاح في وجه التخاذل والاستسلام، والطريق الوحيد لاسترداد الحقّ المسلوب، والوطن المغصوب، وحماية الأمة والمستقبل من الانحلال والضياع.
ومقاومةُ العدوِّ المغتصب، ومجاهدتُه بكل ما نملك أمر لا بدّ منه..
إنّ عقيدتنا التي نؤمن بها تجعل الجهاد في سبيل الله إذا دخل العدوُّ أرضنا فرض عين على الرجل والمرأة والكبير والصغير، وتُحَوِّلُ الشعبَ كلَّه إلى شعب مقاتل.. وهكذا يجب أن ينمو العمل الفدائي وتنمو المقاومة حتى تستوعب كلّ فرد قادر، وكلّ طاقة موجودة، ضمن مخطط شامل للتحرير يرتفع إلى مستوى القضية ومستوى الواجب، ويستخرج إمكانات العرب والمسلمين، ويستفيد من كلّ قوّة يمكن الاستفادة منها في هذه الدنيا.
وعندما يكون الجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ تأخذ القضية وضعها السويّ على الصعيد الوطنيّ والصعيد الإنسانيّ، وترتفع على كلّ هوىً شخصيّ أو مطلب دنيويّ صغير، ويكون أبناؤها بالله أكبر من كلّ قوّة، ولا يطلبون إلاّ النصر أو الجنّة، وتسير القضية محكومة في مراحلها كلّها بقواعد النصر ومبادئ الخلق.. فالقتال في سبيل الله قتال في سبيل الحقّ ضدّ الباطل، والعدل ضدّ الظلم، والخير ضد الشرّ؛ (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (النساء: 76).
وفي هذا القتال المشروع يلتقي الموقف الوطني بالموقف الإنسانيّ والخلقيّ، ويكون الدفاع عن حقنا في أرضنا دفاعاً عن الحقّ في كلّ مكان، وعن القيم العليا التي يجب أن تسود وأن ترخص من أجلها التضحيات.
وإذا كان إخواننا الفلسطينيون الآن يشكلون طليعة الفداء، والمادّة الأساسيّة للمقاومة الشعبيّة في الأرض المحتلة، فواجب العرب والمسلمين أن يغذوا هذه المقاومة ويعززوها ويعينوها على النماء السريع السليم، وأن يبعدوها عن المآرب الشخصية والخلافات الحزبية والمذهبية، والمنازعات العربية والدولية، ويحموها من أيّ استغلالٍ كان، ويوفروا لها أسباب الوقاية من كل ما ينحرف بها أو يعيقها عن سيرها الحثيث.. وأن يستعدوا أعظم استعداد لمواجهة كلّ التطورات، ولا بدّ أن تكون هناك تطورات.. وإذا كان إخواننا الفلسطينيون يشكلون الطليعة -كما قدمت- فليس معنى ذلك أن المعركة هذه معركتهم وحدهم، فالمعركة معركة العرب والمسلمين جميعاً؛ معركة عقيدتهم، ومعركة مصيرهم إلى حدٍّ كبير.
والعمل الفدائي والمقاومة الشعبية في مواجهتها لـ«إسرائيل» والصهيونيّة العالميّة، والدول المؤيدة للباطل، ليست بديلاً للمواجهة النظامية، ولا يمكن أن تغني عنها، ولكنها تتكامل معها، وتهيئ لها، وتشكّل ركناً أساسياً من أهم أركان معركة المستقبل.. فلا بدّ من المواجهة النظامية، ومن الإعداد الحقيقي لها، بل إنّ العمل الفدائي ونموّه والدعم الرسميّ والشعبيّ الجادّ له لا بدّ أن يؤدي إلى مجابهة نظامية.
ومن أكبر الخدع والخيانات أن يُتَّخذ من العمل الفدائي والمقاومة الشعبية ذريعة للتنصّل من مسؤوليات قضية العرب والمسلمين وقضية الحقّ في فلسطين، وأن تلقى أعباؤها وتبعاتها على الفلسطينيين وحدهم، وأن يُصوّر الأمر كأنّ العمل الفدائي وحده قادر على حلّ الموضوع، ويُكتَفى بمساعدات شكلية لا تؤدّي إلى الصدام مع «إسرائيل»، ريثما يخفّ ضغط الرأي العام العربي والإسلامي، وتنفض اليد نهائياً من الموضوع.. هذا إن لم تَفرض التسوية السلميّة -إذا تمتّ- على الجهات الرسميّة أن تقف ضدّ العمل الفدائي والمقاومة الشعبية، وتحاربه حرباً معلنة أو خفية، وتعمل على خنقه وتصفيته، ما لم ينزل على رأيّها وحكمها، ويتخلّ عن هدف التحرير، ويترك طريق النضال، ويسلك سبيل المساومات، ويقبل بأنصاف الحلول، بل بالأرباع والأعشار وربما أعشار الأعشار.
لا بدّ إذن من التأكيد أن قضية فلسطين مع وجود العمل الفدائي والمقاومة الشعبية هي قضية العرب والمسلمين جميعاً حكوماتٍ وشعوباً، ويجب أن يتكاتف الجميع في حمل التبعات، ومواجهة المسؤوليات، والقيام بالواجب دون تهرب أو مداورة أو تلكؤ أو تردد، وأن يتقدموا إلى المعركة بقلوب خالصةٍ لله عزَّ وجلَّ، واثقةٍ بنصره الأكيد.
(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40} الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج).
____________________
من كتاب «في فلسطين آراء ومواقف».