يأتي موسم الصيف كنافذة زمنية فريدة يرحب بها الشباب في العالم العربي بشغف كبير، فبعيدًا عن أعباء المذاكرة وضغوط الاختبارات، يحمل الصيف في طياته فرصة ذهبية لاكتساب مهارات جديدة والاستمتاع بأوقات الفراغ، ولكن هذا الوقت الثمين قد يتحول إلى تحدٍّ حقيقي إذا لم يُستغل بحكمة، يتجلى في كيفية توجيه الطاقة والوقت نحو ما ينفع ويمتع في آن واحد.
فعندما يتحول الزمن إلى مساحة من الفراغ، يصبح الشباب أمام مفترق طرق؛ إما أن يغرقوا في بحر الضياع أو يبحروا نحو الإنجاز، وهو المعنى الظاهر في الحديث النبوي المشهور: «نعمتان مغبون فيهما ابن آدم: الصحة والفراغ»، ولذا فالصيف ليس مجرد فصل، بل هو فسحة زمنية فارقة تمنح الشباب العربي الفرصة للتحليق خارج الصندوق الأكاديمي، ليكتشفوا مواهبهم ويصقلوا مهاراتهم.
التطوير الذاتي
في دراسة نشرتها مجلة «الشباب والمراهقة» (Journal of Youth and Adolescenc) عام 2018م، استعرض الباحث باتريك بينمر دور البرامج الصيفية التي تركز على العلوم والتكنولوجيا في تشجيع الشباب على الانخراط بشكل أكبر في هذه المجالات، وخلص إلى أن الصيف يمكن أن يكون وقتًا مثاليًا للشباب لاستكشاف ميولهم العلمية والتكنولوجية في بيئة تعليمية غير رسمية.
كما أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2018م أن الأنشطة الصيفية غير الأكاديمية يمكن أن تعزز من قدرات الشباب في حل المشكلات والتفكير النقدي، ومنها على سبيل المثال: الدورات التدريبية القصيرة في مجالات مثل البرمجة والتصميم الجرافيكي أو تعلم اللغات الأجنبية؛ ما يسهم في تنمية مهارات الشباب ويجعلهم أكثر استعدادًا لمتطلبات سوق العمل المستقبلية.
وعلى مستوى الصحة النفسية، يمكن لإجازة الصيف أن تكون بمثابة فترة لـ«التجديد»، وفق دراسة نشرها فريق بحثي بجامعة شيكاغو عام 2019م، بعنوان «ما الذي يجعل الشباب منخرطين في التعلم الصيفي؟»، مشيراً إلى أن البرامج الصيفية التي تشمل أنشطة في الهواء الطلق تساعد في تحسين الصحة النفسية للشباب، وتعزز الشعور بالرفاهية لديهم.
التطوع والرياضة
ويصب تعزيز انخراط الشباب بأنشطة العمل التطوعي في الاتجاه ذاته، حيث أثبتت دراسة أجراها معهد أبحاث العمل الاجتماعي في جامعة برينستون عام 2020م أن هذه الأنشطة تسهم بشكل كبير في تعزيز الشعور بالانتماء والمسؤولية الاجتماعية لدى الشباب، ومنها برامج التطوع المحلية أو الدولية، مثل المساهمة في حملات النظافة، أو مساعدة الفئات المحتاجة، أو التطوع في المكتبات العامة.
ويمكن تصنيف الرياضة ضمن أنشطة التطوير الذاتي أيضاً، فهي ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل هي أسلوب حياة يعزز من الصحة البدنية والعقلية، وهو ما أظهرته دراسة نشرتها مجلة «الطب الرياضي» البريطانية عام 2019م.
وأوردت الدراسة أن ممارسة الرياضة بانتظام تسهم في تقليل مستويات التوتر وتحسين المزاج لدى الشباب، وبالتالي يمكنهم استغلال الصيف في ممارسة الرياضات المختلفة.
ورغم تبني وزارات الشباب بعديد الدول العربية برامج رياضية كنشاط صيفي ترفيهي، مثل برنامج «أبطال المستقبل» الذي أطلقته وزارة الشباب المصرية، فإن كثيراً منها يفتقر إلى الوصول للقطاع الأوسع من الشباب في تلك الدول، فضلاً عن قصور المرافق الرياضية المجانية أو ذات التكلفة المنخفضة عن استيعاب الأعداد المليونية من فئة الشباب التي تمثل نحو ثلث سكان العالم العربي، وفق إحصاء الأمم المتحدة.
الرحلات والاستكشاف
كما أن السفر والرحلات خلال الصيف يمكن أن تكون وسيلة رائعة لتوسيع الآفاق واكتساب تجارب جديدة للشباب، بحسب دراسة أجراها مركز أبحاث السياحة في جامعة ستانفورد عام 2021م، لافتاً إلى أن السفر يعزز من الوعي الثقافي ويفتح أمام الشباب أبوابًا جديدة للتعلم الذاتي.
ويمثل برنامج «صيف السعودية»، الذي أطلقته وزارة الثقافة بالمملكة في صيف 2021م، أحد نماذج المشروعات الدافعة إلى تشجيع الشباب العربي على استكشاف التراث الثقافي والمواقع السياحية، لكن تعزيز التعاون مع وكالات السفر لتقديم خصومات للشباب، وتنظيم رحلات تعليمية تستهدف تنمية الوعي الثقافي والتاريخي لا يزال يعاني من القصور في أغلب الدول العربية.
تنمية المواهب
وتعد الفنون بأنواعها من الأنشطة التي تساهم في تطوير الجانب الإبداعي لدى الشباب، وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس عام 2022م أن الانخراط في الأنشطة الفنية يسهم في تعزيز التفكير الإبداعي والقدرة على التعبير عن الذات.
ومن المشروعات الرائدة عربياً في هذا الإطار «صيف الشارقة الفني» الذي أطلقته مؤسسة الشارقة للفنون، ويتضمن ورش عمل وجلسات تدريبية في مختلف مجالات الفنون؛ ما أتاح للشباب تطوير مواهبهم الفنية.
لكن مشكلة الوصول إلى القطاع الأوسع من الشباب لا تزال قائمة، إذ تظل أغلب فعاليات تلك البرامج نخبوية ولا تغطي العدد الأكبر من الشباب الموهوبين في العالم العربي.
التخطيط للمستقبل
ثمة زاوية أخرى يمكن استغلال الفراغ الصيفي فيها، وهي التخطيط للمستقبل؛ أكاديمياً ومهنياً، ففي دراسة أجرتها جامعة ييل عام 2019م تبين أن الشباب الذين يستغلون الصيف في التخطيط لمستقبلهم الأكاديمي والمهني يحققون نجاحًا أكبر في حياتهم.
وأبرز البرامج العربية في هذا الإطار «تنمية وإدارة المواهب» الذي أطلقته جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (KAUST) في صيف 2021م، ويهدف إلى تقديم إرشادات مهنية وأكاديمية للشباب من خلال ورش عمل ودورات تدريبية.
لكن ما ينقص هكذا مبادرات يتمثل في توفير مراكز استشارات مهنية مجانية، وتنظيم معارض تعليمية ومهنية تسلط الضوء على مختلف الخيارات المتاحة أمام الشباب، مع الوصول للشريحة الأكبر منهم.
بناء العلاقات
وتمثل «العلاقات الاجتماعية» واحدة من أهم ساحات توجيه طاقات الشباب في إجازة الصيف، إذ تعد تلك العلاقات جزءاً مهماً من حياة الشباب، ويمكن استغلال أوقات الصيف في تقويتها، حيث أظهرت دراسة نشرتها مجلة «علم النفس الاجتماعي» عام 2020م أن العلاقات القوية تسهم في تحسين الصحة النفسية وتقليل مشاعر الوحدة.
وتوصي الدراسة بتنظيم لقاء للشباب مع الأصدقاء أو الانضمام إلى مجموعات تهتم بأنشطة مشتركة من أجل تقوية روابطهم الاجتماعية.
ومن أبرز البرامج العربية في هذا الإطار، برنامج «لقاء الأجيال»، الذي أطلقته مؤسسة «شباب بيروت» في صيف 2022م، ويهدف إلى تعزيز الروابط بين الشباب وكبار السن من خلال أنشطة مشتركة مثل ورش العمل الثقافية والرياضية.
غير أن مثل هذه المبادرات لا تزال محدودة، ويجب على الهيئات الاجتماعية تعزيز المبادرات التي تجمع بين الأجيال، وتوفير مساحات آمنة ومناسبة لتلك الأنشطة الاجتماعية.
إن الجمع بين العمل التطوعي، والأنشطة الرياضية، والتخطيط للمستقبل، وتوسيع العلاقات الاجتماعية؛ يعد الطريق الأمثل لاستغلال موسم الصيف بشكل مثمر وبناء، ولتحقيق الاستغلال الأمثل لفترة الإجازة الصيفية تحتاج الوزارات والهيئات المسؤولة عن الشباب في عالمنا العربي إلى تبني إستراتيجيات شاملة ومتنوعة تدعم تنمية المهارات وفتح آفاق جديدة للتعلم والتدريب الحر خارج الإطار الأكاديمي.