الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، فرضه الله على عباده في العمر مرة واحدة، وما ازداد به العبد بعد ذلك فهو تطوع، قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 97).
أولًا: أقوال السلف في بيان الحج المبرور وفضائله:
شهد أهل السلف موسم الحج وأشادوا بعظمة هذه الشعيرة ومكانتها عند الله تعالى ودورها الروحي في نفس الإنسان المسلم، فكيف تجلت معاني الحج ومواطن البِر في أقوالهم وأفعالهم؟
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العُمرةُ إلى العُمرةِ كفَّارةٌ لِما بينَهُما والحجُّ المبرورُ ليسَ لَهُ جزاءٌ إلَّا الجنَّةُ»، وللسلف رحمهم الله في المراد بالحج المبرور أقوال كثيرة، وكانت أفعالهم وأحوالهم في الحج تطبيقًا لهذه المعاني الفاضلة، والصفات الشريفة.
من معاني الحج المبرور فعل الطاعات كلها والإتيان بأعمال البر، وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة: 177).
كان السلف يواظبون على فعل الطاعات ونوافل القربات في حجهم، ويستثمرون ساعاته ويعمرون أيامه بالأعمال الصالحة، كانوا حريصين على قيام الليل، وتلاوة القرآن وأنواع الذكر.
لقد كان مسروق يكثر من السجود والإطالة فيه، وكان محمد بن واسع يكثر من نوافل الصلوات، وإذا ركب راحلته أومأ إيماء، ويأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه حتى يشغل عنه الناس بسماع صوته فلا يتفطن له، وكان المغيرة بن الحكم الصنعاني يحج من اليمن ماشيًا، وكان له ورد من الليل يقرأ فيه كل ليلة ثلث القرآن.
من معاني بر الحج كثرة ذكر الله تعالى فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى، قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ {198} ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {199} فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ {200} وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201} أُولَـئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {202} وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (البقرة).
فانظر أخي الحاج كيف أمر الله بذكره واستغفاره ودعائه في هذه المواضع، ونبه على ذلك حثًا لحجاج بينه الحرام أن يستغلوا تلك الأزمان الشريفة والأماكن الفاضلة بما هي أهله من الطاعات والقربات، وأعظمها ذكره جل وعلا واستغفاره، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعِلَ الطوافُ بالبيتِ وبين الصَّفا والمروةِ ورميُ الجمارِ لإقامةِ ذكرِ اللهِ تعالى» (رواه أبو داود).
وقال أهل العلم: إنما كان ختام الأعمال الصالحة ومنها الحج بالذكر والاستغفار؛ لأن العبد محل تقصير في أداء تلك الطاعة، يعتروه النقص والخلل وعدم أداء ما وجب عليه حق القيام.
ومن الذكر في الحج التلبية فيه ورفع الصوت به والدعاء معه، كما هو فعل الصحابة رضي الله عنهم، فعن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوت به راحله قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل –أي رفع صوته– فقال: «لبَّيْكَ اللَّهمَّ لبَّيْكَ لبَّيْكَ لا شريكَ لَكَ لبَّيْكَ إنَّ الحمدَ والنِّعمةَ لَكَ والملْكَ لا شريكَ لَكَ».
من معاني الحج المبرور الإحسان إلى الناس ومعاملتهم بالمعروف وحسن الخلق معهم، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر فقال: «حُسنُ الخُلُقِ»، وهذا الأمر يحتاج إليه الحاج كثيرًا، فينبغي له أن يتحلى به ويجاهد نفسه في تحقيقه، فيعامل الناس بالمعروف ويحسن إليهم بالقول والفعل.
ويتبع ذلك إطعام الطعام وإفشاء السلام، عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحجُّ المبرورُ ليسَ له جزاءٌ إلا الجنةَ»، قالوا: وما بر الحج يا رسول الله؟ قال: «إطعامُ الطعامِ وإفشاءُ السلامِ» (رواه أحمد والطبراني في الأوسط).
وفي حج السلف من الصحابة والتابعين تحقيق لهذه المعاني، قال مجاهد: صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه، فكان يخدمني، وكان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان، وخدمتهم لعدم انشغالهم بأمور أخرى، بل كانوا في خدمة أصحابهم مع اشتغالهم بطاعة الله، ومنهم عامر بن عبد قيس، وعمرو بن عتبة بن فرقد، مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما، وروي عن بعضهم أن كان يصحب إخوانه في سفر الجهاد وغيره، فيشترط عليهم أن يخدمهم، فكان إذا رأى رجلًا يريد أن يغسل ثوبه قال له: هذا من شرطي فيغسله.
إن على المسلم في أوقات العبادة والحضور في الرحاب الطاهرة الالتزام بأكمل الآداب، والتحلي بشريف الخصال، فكيف بالحضور في بيت الله المحرم والمشاعر المقدسة، فمما يكمل بر الحج اجتناب الإثم والمعاصي فيه، قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ) (البقرة: 197)، وفي الحديث الصحيح: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» (متفق عليه).
من بر الحج مع إطعام الطعام سقي الماء وبذله للآخرين، فالحجاج في تلك المشاعر، وبخاصة في وقت الزحام الشديد، بأمس الحاجة إلى الماء يروون به عطشهم، ويستعينون به على قضاء نسكهم.
ثانياً: فضل يوم عرفة عند السلف وأحوالهم فيه:
إن من الأيام الفاضلة عند الله عز وجل يوم عرفة، فهو يومُ أهل الموقف، حيث الحجاج فيه على صعيد عرفات، يقول عليه الصلاة والسلام: «الحج عرفة».
من فضائله أنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنهما، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من يومٍ أَكْثرَ من أن يُعْتِقَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ فيهِ عبدًا منَ النَّارِ، من يومِ عرفةَ، وإنَّهُ ليدنو عزَّ وجلَّ، ثمَّ يباهي بِهِمُ الملائِكَةَ، فيقولُ: ما أرادَ هؤلاءِ».
من طمع في العتق من النار، ورجاء مغفرة ذنوبه، وإقالة عثراته، والتجاوز عن سيئاته في يوم عرفة، فليحرص على الإتيان بالأسباب التي يرجب بها –بعد فضل الله ورحمته– ففي صحيح مسلم عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صِيامُ يومِ عَرَفَةَ، إِنِّي أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السنَةَ التي قَبلَهُ، والسنَةَ التي بَعدَهُ».
والدعاء فيه له مزية على غيره، فقد روى الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ الدعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيونَ من قبلي لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيء قديرٍ».
كان سلف الأمة من الصحابة ومن تبعهم بإحسان حريصين أشد الحرص على استغلال يوم عرفة والإفادة منه، والمحروم من حُرم فضل الله وجوده، والشقي من تمر عليه هذه الأزمان الفاضلة، والأوقات الشريفة دون استغلال لها أو إفادة منها. فكانت أقوالهم حاثة على شغل هذا اليوم بما هو جدير به من الأعمال الصالحة وكانت أحوالهم وأفعالهم تطبيقًا لذلك.
وقد روي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى الناس وتسبيحهم وبكائهم عشية عرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا –يعني سدس درهم– أكان يردهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق، يقول الشاعر:
وإني لأدعو الله أطلب عفوه وأعلم أن الله يعفو ويرحم
لئن أعظم الناس الذنوب فإنها وإن عظمت في رحمة الله تصغر
_________________________________________
1- أبو داود، سنن أبو داود، كتاب المناسك، 2/ 196.
2- الإمام مالك، الموطأ، كتاب الحج، باب جامع الحج، 1/ 422.
3- البخاري، صحيح البخارين كتاب الزكاة، باحث الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، 5/ 101 – 102.
4- بدر بن ناصر البدر، إخوان السلف في الحج، دار الفضيلة، ص. ص 30 – 37، 39 – 44.
5- الترمذي، كتاب الدعوات، باب في دعاء يوم عرفة، رقم 3585.
6- تفسير القرآن العظيم، 1/ 383.
7- جامع العلوم والحكم، 1/ 161.
8- حلية الأولياء، 3/ 315، 5/ 197.
9- سير أعلام النبلاء، 4/ 17.
10- لطائف المعارف، 494 – 498.
11- مسلم، صحيح مسلم، باب الصيام، 6/ 50 – 51.