إذا كان ابن خلدون يعرف نظام الخلافة بأنها «نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا به»؛ فإن الماوردي يجعل من أهم واجبات الحاكم المسلم حفظ الدين على أصوله المستقرة، وحماية البيضة والذب عن الحريم، وتحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، ولا يمكن حفظ الدين دون رعاية أهله، والذب عن حرماتهم، ومدافعة أعدائهم، وإعزاز جانبهم، حتى يتحقق في واقع الناس قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8).
وتلك النصوص في السياسة هي خلاصة المقاصد الشرعية، والتجارب التاريخية جميعاً، عقلها المسلمون من سيرة نبيهم، ومعالم عصور الرشد في تاريخهم.
فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحرك جيشه لنجدة امرأة مسلمة راودها يهود بني قينقاع على كشف وجهها، فأبت، فاحتال أحدهم لكشف سوءتها، فعلت دماء العزة في عروق مسلم رأى الواقعة، فعلا اليهودي بسيفه، فقتله، فتكاثر عليه اليهود فقتلوه، فقاد النبي صلى الله عليه وسلم جيشه ليحاصر اليهود في عقر دارهم، ويجليهم عن المدينة كلها.
ورضي الله عن خليفته أبي بكر الصديق، فقد كان جبلاً راسخاً حين ارتدت العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من ادعى النبوة، ومنهم من منع الزكاة، ولما جادله عمر بن الخطاب في أمر مانعي الزكاة، وأن يتألفهم حتى يتفرغ لمحاربة مدعي النبوة؛ رد حليه أبو بكر في حزم قاطع: «لو منعوني عِقالاً لجاهدتُهم عليه، أَجَبَّار في الجاهلية وخَوَّار في الإِسلام؟ إِنَّهُ قد انقطع الوحيُ، وتَمَّ الدِّينُ، أَيَنْقُصُ وأنا حَي؟».
حتى صدق فيه قول عبدالله بن مسعود: «لقد قمنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً كِدْنا نهلك فيه، لولا أن منّ الله علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لا نقاتل.. فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية»، فأما الخطة المخزية فأن يقروا أن قتلاهم في النار، وأن ما أخذ من المسلمين مردود عليهم، وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم.
وكان عمر بن الخطاب من أشد الصحابة على المشركين، وهو القائل لأبي سفيان لما طلب منه أن يشفع له عند النبي صلى الله عليه وسلم ليجدد الهدنة المتفق عليها في الحديبية، فقال: «أنا أشفع لكم عند رسول الله، فوالله لو لم أجد لكم إلا الذر لجاهدتكم به»؛ أي لو لم أجد إلا جيشًا من النكل لحاربتكم به!
فلما تولى الخلافة بسط يديه بالفتوح صوب فارس والروم، ولما أحس عمر بنوع من تثاقل الناس عن حرب الفرس؛ خرج على رأس الجيش بنفسه مجاهدًا في سبيل الله، فعارضه المسلمون مخافة أن يصاب؛ فيكون مصابه على الأمة كلها، وكان قد سار بالجيش مسافة، ثم نزل على رأيهم، وولى على الجيش سعد بن أبي وقاص، ففتح الله على يديه الفتح المبين في القادسية.
حروب لأجل الحرائر المسلمات
ولما غدر أهل مدينة بيكند في بخارى بواليهم المسلم، وبمن معه من المسلمين، عاد القائد قتيبة بن مسلم فحاصرها شهرًا حتى فتحها، وأوقع مقاتليها بين قتيل وأسير، وكان فيمن أسر ذلك الخائن الذي استجاش الترك على المسلمين، فلما حضر بين يدي قتيبة أراد أن يفتدي نفسه بمليون درهم، فقال قتيبة: «لا، والله لا تُروَّع بك مسلمة أبداً»، وأُمِرَ به فقُتِل.
لقد كان ترويع مسلمة واحدة أعظم جرمًا من أن تدرك صاحبه رحمة الفاتح المسلم، أو تنسيها أمواله.
وكان الدفاع عن كرامة نسوة مسلمات هو الدافع للحجاج بن يوسف كي يحرك جيوشه لفتح بلاد السند، وقتل مليكها، بعدما أوقع قراصنة في مملكته بسفينة عليها نساء مسلمات، فجهز الحجاج جيشاً أمده بكل أسباب الظفر سنة 93هـ، حتى أمدَّه بالخيوط والقطن والإبر والخلّ، وجعل على رأسه ابن عمه الشاب ابن السابعة عشرة محمد بن القاسم الثقفي، فتم الفتح المبين على يديه، وخرَّ داهر ملك السند صريعًا، وفتحت بلاد السند فتحًا نهائيًا، وأصبحت إحدى قلاع الإسلام دينًا وحضارة.
وكما كان الغضب لامتهان الحرائر المسلمات سببًا لهذا الفتح العظيم، كان سببًا لإحدى أكبر فتوحات المسلمين لما حرك المعتصم العباسي جيوشه لفتح عمورية سنة 223هـ استجابة لصرخة امرأة مسلمة هتفت: «واإسلاماه!»؛ فحاصرها المعتصم وجيوشه خمسة وخمسين يومًا حتى استسلمت.
وفي زمن صلاح الدين الأيوبي اعتدى أرناط، حاكم قلعة الكرك والشوبك في الأردن، على قافلة تجارية مسلمة عام 572هـ، فصادر أموالها، وأسر رجالها، وزاد فقال للأسرى: «إن كنتم تعتقدون في محمد فادعوه الآن ليفك أسركم، وليخلصَكُم من شر ما وقعَ بكم».
فلما بلغ ذلك صلاح الدين اشتد غيظه، وحلفَ إن أظفره اللهُ به ليقتلنه بيده، وكان ذلك مبعثًا ليجهز صلاح الدين جيوشه لبدء معركة التحرير الكبرى، ولما تحقق النصر للمسلمين في حطين وقع أرناط من بين الأسرى، فمثل بين يدي صلاح الدين، فلما رآه قال له: ها أنا ذا أنتصر لنبينا صلى الله عليه وسلم، ثم عرض عليه الإسلام، فأبى، فوفى بقسمه وقتله.
حكام يحملون هموم الأمة ويحققون عزتها
وكان نور الدين محمود من سلالة الماجدين الذين يحملون هموم الأمة وآمالها، وكان ابن الأثير المؤرخ يرى أنه لم يأت بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبدالعزيز أفضل منه، وذكر أبو شامة المقدسي أن نور الدين أبى أن يُرى مبتسمًا والمسلمون محاصرون مكروبون في دمياط؛ لما حاصرها الصليبيون والبيزنطيون سنة 565هـ، وقال: إني لأستحيي من الله تعالى أن يراني متبسمًا والمسلمون محاصَرون بالفرنج.
ولما انتصر صلاح الدين انتصاره الداوي في حطين سنة 583هـ وفتح ما حول القدس من البلاد اشتدت أشواق المسلمين إلى تحرير المسجد الأقصى، فجاءته أبيات من الشعر صاغها شاب على لسان المسجد الأسير تقول:
يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكس
جاءت إليك ظلامة تسعى من البيت المُقَدَّس
كل المساجد طهرت وإنا على شرفي أُدنس!
فكان التحرير في يوم من أيام الله.
ولما أعاد الصليبيون احتلال عكا، وباتوا يهددون القدس أصبح عند صلاح الدين من الخوف عليها أمر عظيم لا تحمله إلا الجبال، وكان كالوالدة الثكلى، وهو يجول بفرسه من طلب إلى طلب، ويحث الناس على الجهاد، وينادي: يا للإسلام! وعيناه تذرفان بالدموع، ولم يطعم طعاماً البتة، وإنما شرب أقداح دواء كان يشير بها الطبيب.
وإذا كانت سوق الجهاد قائمة في مشرق الإسلام، فقد كانت تتردد أصداؤها في الأندلس، بينما يتقاعس حكامها الصغار من ملوك الطوائف عن رد العدوان، فأنشد الشاعر الإلبيري السميسر يندد بأفعالهم ويهددهم بثورة شعوبهم، وفقدان عروشهم، ويقول:
ناد الملوك وقل لهم ماذا الذي أحدثتم
أسلمتم الإسلام في أسر العدا وقعدتم
وجب القيام عليكم إذ بالنصارى قمتم
لا تنكروا شق العصا فعصا النبي شققتم
الدعاء لنجدة المستضعفين ونصرتهم
وكان السعي لنصرة المستضعفين من المسلمين أحد أسباب الجهاد التي ذكرها القرآن العظيم: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (النساء 75).
فإذا لم يقدر المسلمون على نجدة إخوانهم، فلا أقل من مواساتهم والدعاء لهم، وبذل الوسع في نصرتهم، فقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء للمستضعفين من المسلمين في مكة، ويقول في قنوته: «اللَّهُمَّ أنْجِ عَيَّاشَ بن أبي ربيعةَ، اللَّهُمَّ أنْجِ سَلَمَة بن هشامٍ، اللَّهُمَّ أنْجِ الولِيد بن الوليد، اللَّهُمَّ أنْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المؤمنين»(رواه البخاري)، وظل النبي شهرًا يدعو على رعل وذكوان وعصية، أقوام من سليم غدروا بسبعين من القراء ذهبوا يدعون الناس إلى الإسلام، في أعقاب معركة «أُحد».
ونص فقهاونا على وجوب تحرير هؤلاء الأسرى المستضعفين، فقال ابن العربي في «أحكام القرآن»: إن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن؛ بألا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم، إن كان عددُنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم، كذلك قال مالك وجميع العلماء، ثم يعقب بقوله: فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حل بالخلق، في تركهم إخوانهم في أسر العدو، وبأيديهم خزائن الأموال، وفضول الأحوال، والعدة والعدد، والقوة والجلد، ويروى أن عمر بن الخطاب قال: لأن أستنقذ رجلاً من المسلمين من أيدي الكفار أحب إليَّ من جزيرة العرب.
فيا لغربتنا حين نتصفح صفحات المجد في تاريخنا، وحين نرى ذلك الاستسلام أمام أعدائنا، وهم يسوموننا الخسف والهون! وحين نرى جماعة من المرابطين الأبطال يقفون في وجه أعدائنا نصرة لـ«الأقصى» السليب، وسعيًا لتحرير وطنهم؛ ويستصرخون إخوانهم، لعل الله يهيئ لأمتنا أمر رشد يعز فيه أهل طاعته.