على مدى 14 قرناً، لم تفلح الجيوش في النيل من الأمة، فكلما تعرضت أمتنا لغزو عسكري انتفضت واتقدت جمرتها، حتى وإن سيطر عليها الغزاة دهراً، ظلت هذه الجمرة مستعرة حتى التحرير.
لقد أدرك أعداء الأمة هذه الحقيقة، واستوعبوا الدرس، فوجهوا جهودهم لحرب خفية من نوع آخر، هي الحرب على الهوية، بنزعها وطمس معالمها، عن طريق الغزو الثقافي والفكري والعبث في مناهج التعليم، لتكون أمة مجردة من درعها الحامي يسهل بعدها غزوها والسيطرة العسكرية عليها.
الهوية هي تعريف المرء لنفسه من خلال الإجابة عن سؤال: من أنا؟ ولكنها بعيدة عن مضمون الهوية الشخصية التي تطبعها الدول لمواطنيها، إنها التعريف بالجوهر والحقيقة، وهوية كل أمة هي صفاتها التي تميزها عن غيرها من الأمم وتعبر عن شخصيتها الحضارية.
الهوية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى(1).
ولما كانت المؤسسة التعليمية من مدارس وجامعات ومعاهد علمية حاضنة تربوية يتعرض لها معظم الناس في فترة أو فترات من أعمارهم، كانت هي الأساس الأول في صياغة شخصية المرء وغرس الهوية التي تنطلق من الثقافة الأم للمجتمع.
حذف فلسطين وما يتعلق بقضيتها أو تهميشها بالمناهج من شأنه أن يطمس هوية الأجيال الناشئة
فالمناهج العلمية هي الأداة التي تمكن المجتمعات من بناء شخصيات أفرادها وفق ثقافة ومعتقدات وفلسفة المجتمع، وهي مجموعة المواد التعليمية التي يتم تعليمها للطلبة(2).
وبناء على ذلك، كانت المناهج التعليمية وما تزال، هي المستهدف الأبرز من عملية تجريف الهوية، ومن خلالها يتم توجيه الأمة من حيث لا تدري.
فلسطين.. ومناهج التعليم
القضية الفلسطينية أم القضايا، وعليها رسمت خارطة الصراع، لأنها ترتبط بأرض إسلامية عربية تم اغتصابها، وبالمسجد الأقصى الأسير أولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودفعت الأمة عبر العصور ثمناً باهظاً للحفاظ عليه واسترداده من يد أعدائها.
لقد أخفق الصهاينة ومؤيدوهم وأذنابهم في تسطيح القضية الفلسطينية والحق الفلسطيني في الوجدان الإسلامي والعربي، لذا نالت هذه القضية قسطاً وافراً من محاولات تهميشها عبر المناهج التعليمية، التي دأبت على غرس حب فلسطين وإبراز كفاحها لنيل حريتها وإظهار المؤامرات الصهيونية لابتلاعها، فضغط الصهاينة بكل الوسائل لحذف ما يتعلق بفلسطين في مناهج التعليم، سواء في فلسطين نفسها أو في الدول العربية.
في أغسطس 1981م، قام رئيس الوزراء «الإسرائيلي» الأسبق مناحم بيغن بزيارة لمصر، وأعرب عن استيائه البالغ من استمرار دراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن اغتصاب «الإسرائيليين» لفلسطين، وكذلك كتب التربية الإسلامية التي تحتوي على آيات قرآنية تندد باليهود(3).
في الداخل الفلسطيني
منذ نكسة 1967م واحتلال القدس وإحكام السيطرة «الإسرائيلية» على الأراضي الفلسطينية، عملت حكومة الاحتلال على «أسرلة» مناهج التعليم الفلسطينية، فشطبت فلسطين من الكتب التعليمية، وسوقت للرواية الصهيونية عن أرض «إسرائيل» والتاريخ اليهودي، وتسويق فكرة أن العرب أقلية تحضنها «إسرائيل» الديمقراطية! وعملت على محو الهوية الفلسطينية من عقول الطلاب بتعزيز انتمائهم للدولة «الإسرائيلية».
بعد احتجاج مديري مدارس القدس على تلك المناهج، رضخ الاحتلال بالسماح للمدارس الفلسطينية بتدريس المناهج الأردنية، إلى أن خرجت المناهج الفلسطينية للنور في عام 2000م، وقامت المدارس في شرقي القدس والمدارس التابعة لبلدية الاحتلال بتدريسه، إلا أنه في عام 2011م قام الاحتلال بتحريف المناهج الفلسطينية، والضغط على المدارس لتعليمه على هذا النحو من التحريف، مع محاولة فرض المنهج «الإسرائيلي» في المدارس بالقدس.
نحن مطالبون للحفاظ على هويتنا بالعمل على إبقاء القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة
تعاظمت محاولات «أسرلة» التعليم في القدس بعد القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل» ونقل السفارة الأمريكية إليها عام 2018م، فرصد الاحتلال ميزانية كبيرة لإغراء المدارس بتدريس المنهج «الإسرائيلي»، الذي من خلاله يتعلم الطالب قيام دولة «إسرائيل» على الرواية الصهيونية، وعن أهمية الكنيست، وحفظ النشيد «الإسرائيلي»، وحذف قصيدة الانتفاضة والنشيد الوطني الفلسطيني، وحذف دروس تاريخية كمعركة «حطين»، وتعزيز القيم الثقافية اليهودية، ودراسة التاريخ المزيف الذي يلغي الحق الفلسطيني في فلسطين، ويلغي وجود الفلسطينيين ويضعهم تحت مسمى غير اليهود أو الأقليات أو جماعات إلى جانب اليهود.
في المحيط العربي
عملت حكومة الاحتلال بالتعاون والارتكاز على الولايات المتحدة حليفها الأكبر وراعيها الرسمي على الضغط على الحكومات العربية لتغيير مناهج التعليم بما يصب في صالح تغييب القضية الفلسطينية من الكتب المدرسية، لصناعة أجيال جاهلة بالقضية وفاقدة للانتماء لها.
وعلى الرغم من أن مؤامرة نزع فلسطين من المناهج في الدول العربية شقت طريقها ووجدت استجابة من بعض الدول العربية منذ معاهدة «كامب ديفيد»، ثم اتفاقية «وادي عربة»، فإن أحداث الحادي عشر من سبتمبر جاءت كفرصة أقوى لتعزز هذا الاتجاه لدى أمريكا والكيان «الإسرائيلي»، مستخدمة فزاعة الإرهاب التي صارت تهمة تشهر في وجه الدول لدفعها للتماهي مع التوجهات الأمريكية و«الإسرائيلية»، وفي خضم مسار التطبيع استجابت العديد من الدول العربية لتغيير المناهج التعليمية بما يتناسب مع الرغبة الصهيونية.
ألغيت كتب ودروس تتحدث عن اليهود وعدائهم وغدرهم وخيانتهم للعهود، وحذف كل ما له علاقة بالعداء مع اليهود بما في ذلك الآيات التي تتحدث عنهم والغزوات والصراعات ضدهم، وحذف دروس تتضمن المعارضة للاستيطان «الإسرائيلي»، وأخرى تتعلق باحتلال اليهود للأرض المقدسة، كما أضيفت دروس حول المكاسب الاقتصادية والثقافية والسياسية للسلام مع دول الاحتلال، واستحدثت كتب دراسية تم إعدادها وفقاً لمتطلبات التطبيع، بل وصل الأمر إلى حذف فلسطين من المناهج التعليمية في بعض الدول وترك مساحتها خالية.
هويتنا في خطر
إن حذف فلسطين وما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو تسطيحها وتهميشها في المناهج التعليمية، من شأنه أن يطمس هوية الأجيال الناشئة التي ستكون معرضة للغرق في الجهل بالقضية الفلسطينية والصراع مع الكيان المحتل.
ستعزز هذه التوجهات من طمس معالم عقيدة الولاء والبراء في نفوس الناشئة، التي ستنظر إلى القضية الفلسطينية على أنها أرض لشعبين يجب أن يتعايشا في سلام، ويختلط لديها العدو والصديق.
سوف تطمس هذه التوجهات حب المقدسات في نفوس الأجيال القادمة، وتُغيّب عن تاريخها الذي هو أحد مكونات الهوية، وذلك عندما تفقد التفاعل مع تاريخ الدفاع والبذل من أجل القدس و«الأقصى».
ستفقد هذه الأجيال هويتها، عندما ترضى وفق هذا المخطط بوجود النفوذ الإمبريالي عن طيب خاطر، وهنا مكمن الخطر، فالدول الواقعة تحت الاحتلال مهما طال أمد احتلالها، فإنها تحتفظ بهويتها طالما هي مدركة بأنها صاحبة الحق في الأرض، وأن عدوها الدخيل لا بد من طرده، أمَا وهذه المناهج تربي على التماهي والتطبيع، فإن الأمة ستفقد بوصلتها ونزعتها التحررية.
ومن شأن هذه التوجهات الضالة أن تصطبغ الأجيال التي تعرضت لهذه المناهج بكل مفردات التطبيع، ما يؤثر على عقيدتها وثقافتها وقيمها.
إننا مطالبون للحفاظ على هويتنا، بالعمل على إبقاء القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، وطالما أننا لا نستطيع الضغط باتجاه تقويم مناهج التعليم، فلا يبقى إلا أن نسير في اتجاه مضاد لها، عبر التعريف والتثقيف من خلال كل المنابر والمسارات المتاحة بأهمية القضية الفلسطينية والصراع مع الصهاينة.
__________________________
(1) العولمة وعالم بلا هوية، سمير محمود المنير، ص146.
(2) دراسة بعنوان «المناهج الفلسطينية المعدلة في مادة التاريخ وأثرها على الهوية الوطنية في مدارس القدس الشرقية»، ميرفت أبو عصب، المجلة العلمية لكلية التربية جامعة أسيوط، المجلد 38، العدد الثامن، أغسطس 2022م.
(3) مستفاد من: التطبيع، عادل الراجحي، ص9.