أكد العالم الإسلامي د. عصام البشير، رئيس مركز الفكر الإسلامي، نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، أن المشروع الحضاري الإسلامي يتميز بشموله، وهو مشروع وسطي يناسب جميع العصور، ويواكب مختلف الأمم، ويمتلك آفاق العالمية كمشروع حضاري يساعد الأمة على النهوض والانطلاق إذا ما التزمت بكافة معالم التميز الحضاري في المشروع الإسلامي بما يعيدها لريادة البشرية لتصبح بحق خير أمة أخرجت للناس.
وقد طوف بنا د. البشير حول تلك الملامح التي يتميز بها المشروع الحضاري الإسلامي في هذا الحوار.
بداية، ما ملامح شمولية المشروع الحضاري الإسلامي؟
– امتدت الرسالة المحمدية طولاً حتى شملت آبَادَ الزمن، وتوسعت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم، وانساحت عمقاً حتى استوعبت شؤون الدنيا والآخرة، حيث لم تغادر الرسالة المحمدية شيئاً يتعلق بخيري الدنيا والآخرة إلا ودلت عليه أو على أصوله؛ في العقيدة والشريعة، العلم والعمل، العبادة والمعاملة، الثقافة والأخلاق، الحق والقوة، الدعوة والدولة، الحضارة والأمة، وباختصار: الدين والدنيا.
رسالة الإسلام عامة تهدف إلى بناء حضارة متكاملة في الإنسان المكرم والعمران الرشيد
ومن شمولية هذا الدين تأتي شمولية مشروعه الحضاري، فرسالته عامة وشاملة، تهدف إلى بناء حضارة متكاملة؛ حضارة الإنسان المكرم والعمران الرشيد، حضارة صيانة الدين ورعاية الدنيا، حضارة الظاهر والباطن، وهذا يتطلب جهداً ضخماً على صعيدي التنظير والتطبيق جميعاً، الأمر الذي يستوجب اتخاذ الأسباب كافة، وتكريس الطاقات العلمية والعملية من أجل استنهاض الهمم وشحذ العزائم لتحقيق مناط الاستخلاف العمراني.
هذه الشمولية بالمشروع الإسلامي متعددة الأبعاد، على مستوى المفاهيم ومستوى الأدوات ومستوى مجالات العمل والمستهدفات، فهي شمولية تجمع بين العقيدة الدافعة، والنزعة الرافعة، والمقاصد الحافظة، والقيم الحاكمة، والأمة الجامعة، والسنن الفاعلة، والحضارة الشاهدة، كما أنها تسخر كل إمكانات الأمة المتاحة؛ الوحي المعصوم (المرجعية الإلهية)، القوة الروحية، تجربة التمكين، النماذج الحضارية، الجغرافيا الحيوية، الكفايات البشرية، الثروات الطبيعية.
وما ملامح وسطية المشروع الحضاري الإسلامي؟
– هوية المشروع الفكري الحضاري الإسلامي، الذي نطمح إلى ترجمته في الواقع المعيش، يتلخص في فكرة محورية؛ هي الوسطية، وتتلخص هذه الهوية الجامعة في قول جامع يعرف الوسطية بأنها:
الالتزام بالإسلام منهجاً شاملاً، مرتبطاً بالزمان والمكان والإنسان، موصولاً بالواقع، مشروحاً بلغة العصر، جامعاً بين النقل الصحيح والعقل الصريح، منفتحاً على الاجتهاد والتجديد وفق منهاج النظر والاستدلال المعتبر عند أهل العلم، ثابتاً في الكليات والأصول، مرناً في الجزئيات والفروع، محافظاً في الأهداف، متطوّراً في الوسائل، مرحباً بكل قديم صالح، منتفعاً بكل جديد نافع، منفتحاً على الحضارات بلا ذوبان، مراعياً الخصوصيات بلا انكفاء، ملتمساً الحكمة من أي وعاء خرجت، عاملاً على تعزيز المشترك الحضاري والإنساني، مرتبطاً بالأصل، ومتصلاً بالعصر.
هوية المشروع الفكري الحضاري الإسلامي تتلخص في فكرة محورية هي الوسطية
ويسعى المشروع الإسلامي الحضاري عبر حمله لصفة الوسطية للانتقال من مجرد «الوجود» الحضاري المنغلق على الذات والمكتفي بها، إلى مستوى «الحضور» بالإسهام الفعال في محاولة إسعاد الإنسان وعمارة الكون، وصولاً إلى تحقيق «الشهود الحضاري»؛ (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 142).
وما معالم التميز الحضاري في المشروع الإسلامي؟
– مشروعنا الإسلامي ذو مرجعية حاكمة؛ تحقق مقاصد الشرع، وترعى مصالح الخلق، فمرجعيتنا العليا مرجعية القرآن الكريم والسُّنة النبوية الصحيحة، بفهمهما الفهم السديد الممنهج بالعلم القويم والعقل الرشيد في ضوء مقاصد الإسلام الكبرى.
كما أن المشروع الحضاري الإسلامي يرتبط بالأصل ويتصل بالعصر، فالارتباط بالأصل بمعنى الرجوع فيه إلى المرجعية العامة للدين الخالد، والعصر هو الزمان الذي ينزل فيه الدين ويعيش فيه أهله، الذي يجب أن يراعى عند تنزيل الأحكام الشرعية، ويجب أيضاً أن يتعاطى معه المشروع الإسلامي من غير اغتراب عنه ولا ذوبان في سلبياته.
والمشروع أيضاً من خصائصه المرونة والتفاعل، وهذه صفة نابعة من التجديد الذي يمارسه، تطبيقاً لفريضة الشرع، ومواكبة لضرورة الواقع، ويجدد المشروع الإسلامي نفسه عبر آلية الاجتهاد، «إذا صدر من أهله، وصادف محله»، فنكون أمام خاصية الاجتهاد الواعي بلا شطط، والتجديد الباني بلا تفلت.
مشروعنا الإسلامي ذو مرجعية حاكمة تحقق مقاصد الشرع وترعى مصالح الخلق
كما أن من معالمه الانسجام في العلاقة بين القرآن والسلطان، وذلك عبر تحقيق الائتلاف بين أهل القرآن وحملته، وأهل السلطان وجنده، من أجل صالح البلاد والعباد؛ وإذ «يزع الله تعالى بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، تظهر أهمية تسديد السلطان بفقه أهل القرآن، من غير تنافر ولا تناحر، ولا ممالأة ولا مخاصمة، بل بالإنصاف والحكمة والموعظة الحسنة، وبحسن التلقي والمقابلة الحسنة والتعاون على البر والتقوى.
والمشروع الحضاري الإسلامي يتميز أيضاً بصفة التدرج والمرحلية، وينطلق في خططه وبرامجه من قاعدة الثبات في الأهداف، والمرونة في الوسائل، فالأهداف ثابتة لثبات مصادرها وتحددها، والوسائل مرنة لارتباطها بالزمان المتغير والبيئة المختلفة، فالأهداف الكبرى هي: إقرار الإيمان، واحترام الإنسان، وتوطيد الغفران، وكل ما أدى إلى تحقيقها؛ وجب اتخاذه، إذ يجب ما لا يتم الواجب إلا به، وكل ما تقاصر عن توفيتها؛ فلا قدسية له، بل يجب تجاوزه إلى الأصلح والأنفع.
كما أنه يرعى السنن ولا يصادمها في البناء والنمو وتطبيق برامجه وتحقيق تفاعلاته، إذ جعل الله تعالى السنن والأسباب والنواميس والقوانين مطردة وموصلة إلى تحقيق المقاصد وإدراك النتائج، وطلب من الإنسان استيعاب هذه الأسباب بعد أن شرعها له وخاطبه بها، ودلل على فاعليتها بالعبرة التاريخية والحجة المنطقية، وناط النجاح في الدنيا والفوز في الآخرة بالقدرة على استيعاب هذه الأسباب وحسن تسخيرها والتعامل معها.
يكون كل ما سبق وغيره من ملامح مثل هذا المشروع الحضاري الكبير.
ما مستقبل المشروع الإسلامي وتحدياته؟
إن مستقبل المشروع الإسلامي وقدرته على الاستئناف الحضاري ومتابعة المسير لتحقيق أهدافها يظل مرهوناً بمنظومته التجديدية ومدى قدرته على تفعيل خصائص مشروعه التغييري والمعتمد على مدى واقعيته وفق مراعاته للسنن.
كما أن من مقتضيات النهوض قدرة المشروع على تغيير واقع الأمة عبر الاستيعاب لا الاستبعاد، وتجميع الجهود لا تفريقها، ومواكبة الوسائل وتكاملها، وتراكم الطاقات وتفعيلها بما يضمن للمشروع مستقبلاً أكثر فاعلية وأنجع أثراً.
من مقتضيات النهوض قدرة المشروع على تغيير واقع الأمة عبر الاستيعاب لا الاستبعاد
ولا بد في كل مشروع من تلمس أسس المنهجية الفكرية التي تنهض بإحياء المشروع وترسم خطاه، وتقوم على ترشيد مساره، وتُبقِي له القوة والحصانة، وتعالجه من أي تخبط وتعثر قد يحصلان، ولا شك في أن الحجر الأساس والبنية التحتية لأي مشروع يكمن في قوة أساساته، وصلابة الأرضية التي يقف عليها، وتحدد الهدف الذي يسير باتجاهه، ووضوح الرؤية في المسير.
فالمشروع الحضاري يجب أن يكون شاملاً مناسباً للزمان والمكان، موافقاً للحال؛ يرشد عقيدة الأمة ويسيّد فكرها، ويستنفر قواها الفردية والجماعية، ويعبئ قدراتها وطاقاتها للفعل، من أجل دفع الأمة بحيث تستجيب للتحديات العظيمة بنهضة راشدة، تستعيد بها موقع الشهود الحضاري بين الأمم، نظرياً بالدعوة والبيان، وعملياً بتحقيق المبادئ والحقائق في واقع الناس المعيش.
والمشروع الإسلامي يواجه تحدي الحفاظ على الثوابت الوطنية والدينية، من غير جمود على ما من طبيعته التغير والتجدد، والسعي إلى إصلاح ما يعتور الطريق أحياناً من زلل أو تقصير أو تجاوز، مع إقرار سِلْمِ الكلمة والممارسة، وعدم الانزلاق إلى أي من أشكال العنف، كما تجب الدعوة المستمرة إلى الحق والخير، دون استعلاء أو وصاية متوهمة، المُبْتَغى في هذا كله وجه الله تعالى أولاً وأخيراً، تفعيلاً لدور البقية الناهين عن الفساد في الأرض، القائمين بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لصالح البلاد والعباد ومن أجل النهوض العام.