لا يمكن نسيان ذلك اليوم الذي وقف فيه رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بعنجهيته المعروفة لينفي علاقة المسلمين بالقدس، معلناً أنها مقدسة في اليهودية لأنها ذكرت في التوراة ستمائة مرة بينما لم تذكر في القرآن ولا حتى مرةً واحدة! والغريب أني منذ أن سمعت هذه العبارة من نتنياهو على شاشة التلفاز فوجئت ببعض العرب صار يرددها بلا خجل، وخاصةً هؤلاء الذين كانوا يروجون في مرحلةٍ معينةٍ لما عرف باسم «اتفاقيات أبراهام».
والواقع أن هذه الشبهة تعتبر من الشبهات الأشد سذاجةً من الناحية العلمية، حيث إنها تعتمد العدد لتحديد القدسية، كما أنها تعتمد على تقرير نوعية المصدر الوحيد في الشرائع من قبل غير أبناء هذه الشريعة، وكلا الأمرين غير منطقي علمياً.
فأما من ناحية العدد، فإن ذكر الشيء باسمه لا يعني قدسيته في الكتب المقدسة، فجهنم على سبيل المثال ذكرت في القرآن الكريم 77 مرة، فهل جعلها ذلك مكاناً مقدساً؟ ومصر ذكرت بالاسم في القرآن الكريم خمس مرات، بالرغم من أن مصر لم تكن يوماً أرضاً مقدسةً ولا جعل هذا لها قدسيةً خاصةً في الإسلام، وذلك في مقابل مكة التي فيها حرم الله تعالى، التي لم تذكر في القرآن بالاسم إلا مرةً واحدةً باسمها ومرةً بلفظ «بكة»، كما أن المدينة (أي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ذكرت أربع مرات، فلم يجعل ذلك مصر مقدسةً ولا جعل ذلك المدينة أكبر مكانةً من مكة المكرمة، كما أن مصر نفسها مذكورة في التوراة 607 مرات في مقابل 600 مرة لاسم القدس حسب آلية البحث في كلمات التاناخ (نص التوراة)(1)، فهل يعني ذلك أن مصر مقدسة في اليهودية أكثر من القدس نفسها بهذا المنطق؟!
أما من ناحية المصدر، فإن المصادر الأساسية للدين اليهودي هي التوراة وشروحها (المشناه والجماراه المسماة «التلمود»)، وهذا أمر لا خلاف عليه بين علماء الدين اليهودي، فإذا جاء الأمر إلى الإسلام، رأيت الكثيرين يفردون القرآن الكريم باعتباره المصدر الأساسي الوحيد في الدين الإسلامي، وينسون السُّنة النبوية الشريفة الصحيحة، وهذا خطأ منهجي يقع فيه حتى بعض المسلمين من الذين يحاربون السُّنة النبوية اليوم، ولست هنا في وارد مناقشة «القرآنيين»، فالقرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة هما المصدران الأصليان للتشريع في الدين الإسلامي، ولا غرو أن نجد الإشارات بالتبجيل والتقديس إلى القدس وما حولها في كثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تزيد على تسعمائة موضع في القرآن والسُّنة، فحتى لو أخذنا بمنطق العدد –الذي لا يجوز الأخذ به أصلاً كما بينا سابقاً– لما تمكن أتباع هذا المنطق من التفوق على النصوص الإسلامية.
إن الميزة التي تتميز بها مسألة ذكر القدس والأرض المقدسة والأرض التي بارك الله فيها في القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة هي أن جميع المواضع التي تذكر هذه الأرض الطاهرة إنما تذكرها بالتبجيل والتقديس والإشادة، وذلك لأن القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة نصان دينيان، حيث لا يذكر الأمر لمجرد الذكر، فالإسلام يهتم بالكيف لا الكم، وهذه معجزة القرآن الكريم الذي يعطي المعاني العظيمة بأقل قدر من الكلمات.
أما النصوص التوراتية التي يشير إليها هؤلاء، فإن غالبها قصص وروايات شعبية ذكرت خلال إعادة كتابة التوراة البابلية على يد عزرا كما هو معروف، ولذلك نجدها لا تأتي على أكثر من ذكر أحداثٍ هنا أو قصص هناك، وهو ما لا يعطي الموضع أهميةً أو قدسيةً خاصةً ما لم يكن ذكره مقترناً بالفضائل كما هي الحال في القرآن الكريم والسُّنة النبوية الشريفة.
________________
(1) https://search.dicta.org.il/.