فوجئت بنجلي الأصغر (14 عاماً)، وهو منهمك في استخدام فلاتر التجميل، وإنتاج مقطع كوميدي قصير، وبثه على موقع الفيديوهات الصيني الشهير «تيك توك»، أحد أكثر منصات التواصل الاجتماعي استخداماً في الوقت الراهن، لأتيقن من أن هذا العملاق الجديد والمرعب منذ انطلاقه، عام 2016م، قد تسلل إلى بيتي وأبنائي.
حيرة تنتابك كأم ومربية، إزاء التعامل مع هذا الخطر الشديد الذي سلب عقول وأفئدة أطفالنا، فصار يجتذب اهتمامهم، ويستأثر بأوقاتهم، وربما يضعهم في عزلة اجتماعية، واغتراب أسري، وقد انزوى كل منهم يشاهد ما يريد، ويبث ما يريد.
هل تقرر حظر التطبيق على هواتفهم؟ هل تسحب الهواتف الذكية منهم؟ هل تراقب ما يصنعونه من محتوى؟ هل تشاركهم الشغف بهذا الزائر التكنولوجي؟ ما أخطاره؟ وكيف تتجنب أضراره؟ وإلى أي مدى يمكن الاستفادة منه؟
تساؤلات عدة تلاحق عقلك، مصحوبة بتوتر وقلق طبيعيين، وخوف على ابنك أو ابنتك، في زمن سيطرت فيه وسائل التواصل على حياتنا، وفرضت هيمنتها على اهتمامات الصغار والكبار، وقد وضعت الأسرة؛ أباً وأماً وأبناء، في مواجهة صعبة، لكنها محتومة ومصيرية.
دراسات حديثة، أبرزها ما صدر عن مركز «بيو» الأمريكي للأبحاث، تفيد بأن نسبة 17% من الأطفال والمراهقين الأمريكيين بين 13 و17 عاماً يقومون بتصفح تطبيق «تيك توك» بشكل مستمر يصل إلى إصابة مستخدميه بالإدمان.
وإضافة إلى أخطار الإدمان، تتزايد المخاوف بشأن خصوصية المراهقين، وأمن البيانات الشخصية، وإمكانية مشاهدة مقاطع خادشة للحياء، أو ذات محتوى يحض على العنف، وإيذاء النفس، ويسبب اضطراب الأكل والنوم، وفق دراسة صادرة عن مركز مكافحة الكراهية الرقمية (منظمة بريطانية غير حكومية).
ومن الأخطار كذلك، تنامي السفه في الإنفاق، وتزايد الرغبة في التسوق، والإصابة بالشره الاستهلاكي، حيث تفيد بيانات حديثة بأن نحو 50% من الجيل «زد» (الجيل الذي يلي جيل الألفية)، و30% من جيل الألفية يشترون منتجات جديدة اكتشفوها عبر «تيك توك»، بينما يفضل نحو 38% منهم محتوى العلامات التجارية، و66% منهم يكتشفون علامات تجارية جديدة عبر التصفح، بحسب منصة «تيك توك بيزنس».
وهناك آثار سلبية أكثر خطورة، منها الإلهاء عن أداء الصلاة، وحفظ القرآن الكريم، وأداء الواجبات المدرسية والمنزلية، والتأفف من الأب والأم عند مطالبة الطفل بأمر ما، واعتزال أشقائه، وعدم تبادل الحديث مع أحد، وفقدان التركيز والشغف بحياته الطبيعية، حيث يصبح أسيراً لشاشة صغيرة تدار بلمسات ذكية.
وخلال عملية الأسر، تتهدم قيم نبيلة لدى طفلك ربما استغرقت سنوات لتغرسها في نفسه، وتتشكل قيم جديدة، تتعلق بالرغبة في الثراء السريع، ونيل الشهرة، وحصد علامات الإعجاب، والرغبة في التسوق، وتزايد الشره الاستهلاكي، فضلاً عن عدم الرضا عن الذات، وتقليد الآخرين، وانحسار الرغبة في الجهد والعمل، إذ إن عدة مقاطع بأقل جهد ممكن يمكن أن تجعل منه ثرياً يحصد ملايين المشاهدات ليصبح «تيك توكر» شهيراً.
نحن أمام تطبيق مرعب قد أضر برواج «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، بعد أن وصل عدد مستخدميه إلى 1.677 مليار مستخدم حول العالم في عام 2023م، مع 1.1 مليار مستخدم نشط شهرياً، محققاً علامة التطبيق الأكثر تنزيلًا بمعدل 3.5 مليار مرة، بمحتوى تتصدره مواد الترفيه والرقص والمقالب!
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن متوسط الوقت المستغرق على التطبيق الصيني يصل في المتوسط إلى 95 دقيقة يومياً؛ أي ما يعادل أكثر من 6 ساعات أسبوعياً، وحوالي 26 ساعة شهرياً، وقد يتزايد المعدل بنسب كبيرة حسب درجة إدمان الشخص لهذا التطبيق الذي يستحوذ على عقول المراهقين، ويسلب إرادتهم.
هنا، المواجهة صعبة بينك كأب أو أم، وتطبيق إلكتروني ذكي، ينقل ابنك إلى عالم آخر، يُنسيه ما حوله، بشكل قد يتجاهل معه إحساسه بالجوع أو التعب، وقد ينسى كذلك رغبته في اللعب أو الخروج مع الأصدقاء، وقد يفقد معه تركيزه وانتباهه؛ ما يؤدي لاحقاً إلى العديد من المشكلات الصحية والنفسية والذهنية والأخلاقية.
إزاء ذلك، لا بد أن تواجه هذا الخطر، بداية من منع استخدام هذا التطبيق قبل سن الخامسة عشرة، والرقابة على المحتوى الذي يشاهده ابنك أو ابنتك، وضبط إعدادات التطبيق لحماية طفلك، وربط حسابك بحساب طفلك، والحد من اقتراحات المتابعة التي تظهر له، وتحديد وقت معين للمتابعة، وتوفير أنشطة بديلة ومتنوعة، وابتكار أفكار ثرية تحرر الأبناء من أسر الهواتف الذكية وتطبيقات التواصل.
بموازاة ذلك، من المهم تربوياً واجتماعياً أن يجري تعزيز أواصر الحب والتفاهم بين أفراد الأسرة، وتحويل العلاقة من أبوة وأمومة فقط إلى صداقة أيضاً للمراهق والمراهقة، مع زيادة مساحات التفاهم والاحتواء، ومشاركة الشغف والإبداع، بشكل يحرر قدرات الأبناء، ويدفع بطاقاتهم إلى آفاق أوسع من المعرفة والابتكار والإنتاج وتطوير الذات.
ومجتمعياً، يجب أن تتضافر جهود جميع المؤسسات، من أجل إتاحة وتوفير أنشطة وفعاليات ترفيهية ورياضية وسياحية وفنية وتعليمية، تواجه تغول تلك التطبيقات الافتراضية على حياة أبنائنا، بالإضافة إلى توفير منصات عربية هادفة وثرية تنافس تلك الوسائل، وتحد من سطوتها على فلذات أكبادنا.