إن المتدبر في فريضة الحج يقف أمام عدد من المشاهد التي يستنبط منها درساً بالغ الأهمية في السياسة الشرعية، فما المشاهد الموحية؟ وما الدرس المستفاد؟
أولاً: المواقيت المكانية للإحرام: إن الإسلام أمر الحاج أن يلبس الإحرام قبل أن يدخل مكة، وإن مخالفة ذلك يترتب عليها فداء يلتزم به الحاج أو المعتمر، وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم المواقيت المكانية للإحرام، حسب القادم من كل بلد، ولم يجعل الميقات واحداً للجميع.
ثانياً: تنوع طريقة أداء المناسك في الحج: شرع الإسلام للمسلم أن يؤدي حجه مفرِداً (الحج فقط)، كما شرع له أن يؤدي حجه قارناً (يؤدي العمرة مع الحج من غير أن يتحلل من الإحرام بينهما)، كما شرع له أن يؤدي حجه متمتعاً (يحرم للعمرة ثم يتحلل من إحرامه ثم يحرم للحج من جديد في سفر واحد)، والطرق الثلاث جائزة ويفعلها الحجاج ولا حرج على من اختار واحدة منها دون الأخرى.
ثالثاً: التقديم والتأخير في أداء بعض المناسك: ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمرو أنه شَهِدَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَخْطُبُ يَومَ النَّحْرِ، فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: كُنْتُ أحْسِبُ أنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا، ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: كُنْتُ أحْسِبُ أنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا، حَلَقْتُ قَبْلَ أنْ أنْحَرَ، نَحَرْتُ قَبْلَ أنْ أرْمِيَ، وأَشْبَاهَ ذلكَ، فَقَالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «افْعَلْ ولَا حَرَجَ، لهنَّ كُلِّهِنَّ»، فَما سُئِلَ يَومَئذٍ عن شيءٍ إلَّا قَالَ: «افْعَلْ ولَا حَرَجَ».
رابعاً: التخيير للحاج بين التعجل في إنهاء حجه بنهاية اليوم الثاني عشر من ذي الحجة قبل غروب شمسه أو أن يتأخر إلى اليوم الثالث عشر؛ حيث قال الله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى) (البقرة: 203).
إن المتدبر في هذه الخيارات في بداية فريضة الحج ونهايتها، التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها أحد من الفقهاء؛ يجد أنها تفتح باباً عظيماً من أبواب بناء الشخصية المسلمة بناء سليماً يقوم على الجمع بين مراعاة فقه الموازنات وفقه الأولويات تحت قاعدة عظيمة تسمى «تعدد الصواب».
هل يتعدد الصواب؟
أكّد الإمام الشوكاني أن جمهور العلماء قد اتفقوا على أن الحق واحد لا يتعدد، فإن لَمْ يَتَعَيَّنْ لَنَا، فهُوَ عِنْدَ اللَّهِ مُتَعَيَّنٌ، لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ، فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ، فِي الشَّخْصِ الْوَاحِدِ حَلَالًا وَحَرَامًا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يُخطِّئ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَعْتَرِضُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَلَوْ كَانَ اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ حَقًّا، لَمْ يَكُنْ لِلتَّخْطِئَةِ وَجْهٌ(1)، لكن ذلك لا يعني أن الصواب واحد لا يتعدد، إذ الحق هو الحكم الأخير والقرار النهائي الحاسم في المسائل الشرعية المحددة، أما الصواب فهو السبيل الذي يصل بنا إلى الحقيقة، وهو محل اجتهاد المجتهدين، وهذا موضع الحديث في هذا المقال وموضوعه.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر تعدد الصواب
في صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر قال: قَالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ «الأحْزَابِ»: «لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ»، فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتَّى نَأْتِيَهَا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ.
وفي هذا دليل على صواب مسلك الفريقين، حيث إن المقصد من الأمر ليس مكان أداء صلاة العصر أو زمانها؛ بل المقصد هو التعجيل والمسارعة في الذهاب إلى بني قريظة دون تباطؤ.
أهمية قضية تعدد الصواب في العصر الحاضر
أولاً: تسهم مسألة تعدد الصواب في الفكر الإسلامي في الحرص على الإلمام بفقه الأولويات والموازنات في النظر إلى الأعمال وحسن ترتيبها وتقديم الأهم منها على المهم.
ثانياً: تؤدي مسألة تعدد الصواب إلى مراعاة أحوال الناس، والتيسير عليهم، من خلال اختيار الأيسر لهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «ما خُيِّرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أمْرَيْنِ إلَّا اخْتارَ أيْسَرَهُما ما لَمْ يَأْثَمْ».
ثالثاً: تعد مسألة تعدد الصواب علامة على سعة المنهج ومرونة الشريعة الإسلامية، وكذلك علامة على نضج حاملي هذا المنهج وثقتهم في سمو وعلو فكرتهم التي يدعون إليها، وهي أيضاً دلالة بارزة على سعة أفق دعاة مشروعه الحضاري.
رابعاً: تتضاعف أهمية مسألة تعدد الصواب في حلقة تعدد الصراع والتدافع الحضاري المعاصرة أمام تيارات ومشاريع مناوئة، يلقي حاملوها بالتهم جزافاً على حاملي المشروع الحضاري الإسلامي، ويتهمونهم بالجمود والتحجر وأحادية النظرة وعدم قبول الآخر.
خامساً: تفتح مسألة تعدد الصواب الباب أمام الاجتهاد في فروع الشريعة الإسلامية(2)، وتحصيل الأجر والثواب للمجتهدين أجمعين، المخطئ منهم والمصيب، ففي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ».
سادساً: تقي مسألة تعدد الصواب من الصراع والنزاع في كثير من الأحوال، حيث إن المدرك لها يستطيع استيعاب الرؤى الأخرى والتصورات المغايرة لرؤيته وتصوره، ويعلم أنها يمكن أن توصل إلى الهدف المطلوب، لكن من طريق آخر، وبالتالي فلا مجال للنزاع والصراع طالما وصلنا إلى الهدف.
سابعاً: تسهم مسألة تعدد الصواب في جمع كلمة المسلمين ووحدتهم، حتى وإن اختلفت الآراء بينهم، لأنها تعبر عن الاختلاف المثمر لا المفسد.
ثامناً: تفتح مسألة تعدد الصواب الباب أمام التعددية السياسية التي تعني في جوهرها التسليم بالاختلاف كحق للمختلفين لا يملك أحد أو سلطة حرمانهم منه، وهذه التعددية السياسية تمنح لكل كيان سياسي حق التفكير والتعبير في ظل الإطار العام الذي يسع الجميع ويحميهم من الضرر، تحت شعار «تنوع في إطار الوحدة».
تاسعاً: تؤدي مسألة تعدد الصواب دوراً بالغ الأهمية في غرس قيمة الأدب والاحترام والتقدير للمخالفين، حيث إن رأيهم الذي يخالف رأيي قد يكون صواباً يجب احترامه وتقديره.
عاشراً: تؤسس مسألة تعدد الصواب لقاعدة الشورى في حياة المسلم، حيث يبحث المستشير بين الآراء المتعددة عن الأصلح لحاله ضمن الآراء المتعددة التي قد تكون جميعها على صواب.
وهكذا يتبين أن مسألة تعدد الصواب في الفكر الإسلامي تؤسس للبناء الحضاري وتحميه من النزاع والصراع، كما تغرس العديد من القيم التربوية التي تنفع الفرد والمجتمع وتحقق الخير والرشاد للجميع.
____________________
(1) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، الشوكاني (2/ 231).
(2) قطوف تربوية حول رحلة الحج، د. حمدي شعيب، ص 82.