غزة الجرح النازف في المنطقة العربية، التي تختزل كل فصول الصراع الفلسطيني الصهيوني منذ قيام ذلك الكيان المزعوم على أرض فلسطين، فوق أنقاض وأشلاء أبنائها، وجثث أصحابها، في أكبر جريمة لا أخلاقية ولا إنسانية استهدفت الشعب الفلسطيني قتلاً وتهجيراً للاستيلاء على أرضه، بمباركة غربية أوروبية، وهوان عربي، لتمتد فصولها وتتعدد أجزاؤها إلى يومنا الحالي، ما بين مآلات وارتدادات تعصف بالمنطقة طالما بقيت دون حل، وطالما بقي الاحتلال الصهيوني جاثماً على صدر الأمة العربية التي ارتضت لنفسها أن تدور في فلك الاحتلال، وتتساوق معه عبر علاقات تطبيعية على حساب أبناء جلدتهم وعقيدتهم.
تبديل المواقف الغربية
إن الحرب الدائرة في غزة، منذ السابع من أكتوبر الماضي، أعادت الجرح الفلسطيني المفتوح منذ القدم، بيد أن الهجمات العسكرية، وشراسة الرد الصهيوني، وفداحة الخسائر البشرية والماديّة لدى الفلسطينيين، جعلت الجرح يزداد اتساعاً وعمقاً؛ صحيح أن العدوان الصهيوني تحول إلى إبادة ممنهجة لأبناء الشعب الفلسطيني، وأسفر عن مقتل الآلاف من أبناء غزة وخاصة النساء والأطفال وألحق دمارًا جسيمًا في البنية التحتية، ولكن تبعاته أيضاً طالت مناطق العالم أجمع، إذ شهدت عواصم ومدن عربية وغربية مسيرات ومظاهرات غير مسبوقة تنديدًا بالحرب، في الشوارع وفي الجامعات، وقلبت موازين الدول الداعمة للكيان الصهيوني، وأثرت في قراراتهم، وساهمت في تحويل الرأي العام لصالح القضية الفلسطينية وزيادة الضغوط الدولية على دولة الكيان وسياساته الهمجية المتمثلة في القتل والتدمير، وتحول الدعم الأوروبي اللامحدود للكيان الصهيوني إلى انتقادات حادة من قبل الدول الأوروبية طالت رد الفعل الصهيوني مع قيام جيشه باستهداف المدنيين والمستشفيات والبنية التحتية، من خلال الغارات الجوية المكثفة، والاجتياح البري، فضلًا عن إجبارها لأكثر من مليون شخص على ترك منازلهم، وتشريدهم حتى من الأماكن الآمنة التي كانت تعلن عنها، وتصاعدت الأصوات الداخلية في العديد من الدول الغربية لحثها على ضرورة الالتزام بقواعد القانون الدولي والإنساني، وهو ما مثل تحولًا كبيرًا في توجهات الرأي العام الغربي نحو الأزمة.
تعزيز السردية الفلسطينية
لقد أدّى هذا العدوان إلى نشوب حرب سرديات أجّجت التوتر داخل الكثير من المجتمعات الغربية، وساهم أيضًا في تعميق الهوة الكبيرة التي تفصل بين دول الشطرين الجنوبي والشمالي من العالم، وزاد من حدّة الانقسامات الداخلية، وفضح ازدواجية المعايير الدولية، وأعاد القضية الفلسطينية التي بدا وكأنها دخلت في طي النسيان إلى واجهة المشهد الدولي وإلى صُلب النقاش السياسي من جديد، وأثبت أنها لا تزال قادرة على التأثير في الرأي العام وحشد الشعوب والمجتمعات حول العالم، ويُعزى ذلك إلى أن الصراع الراهن لا يمكن فصله عن سياقه العام، إذ يرزح الفلسطينيون منذ عقودٍ طويلة تحت وطأة الاحتلال والحرمان من الحقوق، ويعيش سكان غزة تحت الحصار في أكبر سجن مفتوح في العالم، في ظلّ تفاوت شاسع في موازين القوى العسكرية بين الجانبَين الصهيوني والفلسطيني، وغياب لأي أُفق سياسي لحل النزاع في خضمّ الخسائر المأساوية التي يتكبّدها سكان غزة منذ احتلالها.
تحقيق الأهداف الوطنية
إن التأثيرات والتحولات الكبرى التي أحدثها العدوان الصهيوني على غزة خاصة مع طول أمده وزيادة حدته كانت كبيرة وفارقة، فقد شهد الموقف الرسمي الأوروبي تحولًا لافتًا للنظر بشأن حرب غزة؛ استجابة للرأي العام الرسمي والشعبي الذي بات داعمًا بشكل كبير للفلسطينيين، بعد أن كان خلال الأسابيع الأولى من العدوان داعمًا لدولة الكيان بشكل كبير، ومن أمثلتها:
أولاً: التحولات الآنية:
1- تصاعد الضغط الدولي على دولة الكيان لوقف الحرب على غزة، بسبب انتهاكها للقانون الدولي والإنساني، خاصة بعد تكثيف جيش الاحتلال الصهيوني من قصفه وعملياته العسكرية التي راح ضحيتها آلاف المدنيين من النساء والأطفال، وتدمير أسس ومقومات الحياة بشكل ممنهج ومتعمد في غزة.
2- التظاهرات الغربية الحاشدة في مختلف الدول والمدن الأوروبية دعمًا للفلسطينيين، على خلفية الانتهاكات الصهيونية بحق المدنيين الفلسطينيين، واعتراضاً على الدعم الأمريكي والغربي المتواصل لدولة الكيان في حربها على قطاع غزة.
3- تراجع الاتحاد الأوروبي عن قراره بتعليق كافة المساعدات الإنسانية للشعب الفلسطيني، ودعوته كل الدول الأعضاء إلى إعادة تقديم الدعم والمنح للشعب الفلسطيني وخاصة «الأونروا».
4- قرار محكمة الجنايات الدولية الداعي لإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، ووزير حربه يواف غالانت؛ بتهمة ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
5- قرار محكمة العدل الدولية الداعي لوقف الهجوم الصهيوني العسكري على رفح فوراً، وفتح المعابر لدخول المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، وضمان وصول لجنة تقصي للحقائق بشأن تهمة الإبادة الجماعية التي تقوم بها دولة الكيان في غزة.
6- الاعتراف المتسارع من قبل الدول الأوروبية، وعلى رأسها أيرلندا وإسبانيا والنرويج وأرمينيا وسلوفينيا بالدولة الفلسطينية، في تحدٍّ صارخ وقوي لدولة الكيان؛ مما يعطي الشرعية للقضية الفلسطينية ونضالاتها من أجل التحرر، وحق الشعب الفلسطيني على أرضه وتقرير مصيره، ونبذ الممارسات الصهيونية الرامية لتقويض الدولة الفلسطينية وشرعيتها.
7- التخبط الذي أحدثته حرب غزة في مواقف الساسة من اليمين واليسار في العالم الغربي، والتحول الكامل من دعم دولة الكيان في بادئ الأمر إلى تغيير الموقف سلبياً تجاهها بعد تطور الصراع، وظهور دولة الكيان على حقيقتها الإجرامية الانتقامية، بعد القتل والتدمير الممنهج والإبادة الجماعية بحق المدنيين والأبرياء.
ثانياً: التحولات المستقبلية:
1- الانقسام الواضح والبون الشاسع الذي بدأ يظهر على السطح بين المواقف الحكومية الغربية الرسمية المرتبطة بالمصالح الاقتصادية والسياسية الخاصة بها، ومواقف الشعوب المنحازة للقيم الحضارية والإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان، والحقوق الثابتة للشعوب الرازحة تحت الاحتلال، وحقها في الحرية وتقرير المصير، والمنددة بالانتهاكات والممارسات الصهيونية الإجرامية بحق الفلسطينيين، ومواقف حكوماتها الهزيل المتواطئ مع دولة الكيان وحرب الإبادة.
2- إضعاف فرص نجاح المشاريع الاقتصادية للغرب في الشرق الأوسط، وذلك بسبب تراجع الاستثمارات الغربية في المنطقة، وصعوبة التنسيق فيما بينها في مجال التنمية الاقتصادية بسبب نبذها من قبل الشعوب العربية لمواقفها الداعمة لدولة الكيان.
3- تراجع النفوذ الغربي في المنطقة، بسبب الرفض العربي للهيمنة الغربية والمواقف المنحازة من قبلهم لدولة الكيان في حربها على غزة، ودورهم السلبي الذي ينظر لمنطقة الشرق الأوسط من منظور المصالح الصهيونية وساحة اشتباك دائمة لإرهاب المنطقة.
على الرغم من تحول الرأي العام الغربي باتجاه دعم القضية الفلسطينية، وإدانة الانتهاكات الصهيونية ولو كانت محدودة وعلى استحياء، فإن أحداث غزة عكست اتساع الفجوة بين الشعوب في الغرب وحكوماتهم، لا سيما أن استجابة الحكومات الغربية لتلك التحولات جاءت لحفظ ماء الوجه، في ظل الانتقادات الحادة التي واجهتها بعد الدعم المطلق للكيان الصهيوني وتجاهل الرأي العام وموقف شعوبها، إلا أن هذه التحولات قد تشكل فرصاً في المستقبل القريب للضغط على قادة هذه الدول لاتخاذ مواقف أكثر توازناً تجاه القضية الفلسطينية.