الإسلام دين الإنسانية الفاضلة، والمدنية الراقية، وقد ختم الله جل جلاله رسالات السماء بدين الإسلام ليرتقي بالإنسانية كلها إلى قمة الحضارة المادية والمعنوية، وليدخل الناس جنة الدنيا قبل أن يدخلهم جنة الآخرة.
ولقد حرم الإسلام الظلم، والقتل وسفك الدماء، وفرض السلام بين البشر جميعاً، وحرم الإسلام الحرب والقتال في الأعم الأغلب، ولم يشرع الإسلام القتال والجهاد إلا في حالات قليلة، بل نادرة.
وجعل الله عز وجل السلام بين المسلمين وغير المسلمين الأصل في العلاقات الدولية، وأما القتال فهو استثناء، قال الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ) (البقرة: 216).
فالقتال مكروه في الإسلام إلا في حالات محددة يكون مشروعاً، وقد يكون واجباً في حالات أقل.
وهناك قائل يقول: ولكن، كيف أن الإسلام دين السلام وهو الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وإنما هو دين العنف والإرهاب والقتل وسفك الدماء، وقد دل على ذلك القرآن الكريم نفسه الذي قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (البقرة: 190)، وقال أيضاً: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً) (التوبة: 36).
فهذا أوضح دليل على أن الإسلام دين عنف وقتل وإرهاب وليس دين سلام كما تدعون!
نقول: إن الادعاء بأن الإسلام دين إرهاب وعنف وقتل؛ كذب مفضوح، وتزوير، انساقت إليه عقول ضيقة، وقلوب مريضة عن جهل أحياناً، وعن تجاهل في الأعم الأغلب، والأدلة التي سيقت تدليلاً على كذبهم ما هي إلا جري على مذهب «ولا تقربوا الصلاة».
ونقول لهؤلاء: أكملوا الآية تجدوا الجواب، في نفس الآية قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، فنحن المسلمين مأمورون بقتال من يقاتلنا، ومأمورون كذلك بألا نعتدي في القتال، وهذه هي صناعة السلام التي لم تعرف لها البشرية نظيراً؛ قاتل من يقاتلك، فهذا يجب دفعه ومقاومته حتى نطهر الأرض من المعتدين الآثمين الذين يروعون الآمنين، ولا سبيل لصناعة السلام إلا بدفع المعتدي.
وأما الآية الثانية، فواضحة تماماً كالأولى، فالله تعالى يقول: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة: 36)، فالأمر بقتال المشركين كافة سببه أنهم يقاتلون المسلمين كافة، وهذه هي صناعة السلام كما أسلفنا، أما ترك المعتدي المقاتل بلا رد، فهذه دعوة للإفساد في الأرض، ودعوة لنشر الظلم والفساد، وقتل العباد.
وما نود تأكيده أن دين الإسلام فرض على المسلمين مسالمة المسالمين، ومقاتلة المعتدين، وجعل الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلام لا العدوان، إلا على المقاتلين المعتدين، قال الله تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (النساء: 90).
فهذا نصر قرآني واضح الدلالة على أن السلام هو الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم، وأن غير المسلمين يحرم قتالهم إن سالمونا ولم يقاتلونا، فمسالمتهم فريضة لازمة وقتالهم جريمة محرمة بنص القرآن الكريم، لأن القرآن يدعو إلى السلام ويحرم البغي والعدوان.
ويظن بعض الكتَّاب والمفكرين أن الفتوحات الإسلامية ما كانت عن جهاد وقتال فقط، وهذا صحيح ولكن ما لا يعلمه الكثير أن الصلح وعدم القتال يعد فتحاً في ميزان الإسلام بنص القرآن، وهذا ما وصف به الله تعالى صلح الحديبية في القرآن الكريم قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً) (الفتح: 1)، ونزلت سورة كاملة في توضيح أبعاد الفتح المبين، الذي تم بدون قتال ولا إراقة دماء، وهي سورة «الفتح».
وعلى نفس المنوال نسج القرآن في وصف غزوة «الأحزاب» التي انتهت دون قتال، قال تعالى: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً) (الأحزاب: 25)، فالله تعالى يذكّر المؤمنين بمنته عليهم وفضله العظيم في إنهاء غزوة «الأحزاب» برد الكافرين وكفاية المؤمنين مكر الكافرين، وخيانة الخائنين دون قتال، وفي هذا تذكير بأن القتال أمر مكروه في دين الإسلام لا يلجأ إليه المسلم إلا لرد العدوان.
ومن الآيات التي تثبت أن أصل العلاقة بغير المسلمين هو السلام قوله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال: 61)، فهذا نص صريح من كتاب رب العالمين يرشد المسلمين إلى مسالمة غير المسلمين إن مالوا للسلم، ونبذوا العنف، وتركوا القتال، فماذا علينا نحوهم؟ علينا أن نسالمهم بلا تردد، ونترك قتالهم، ولا نحاربهم.
وهنا قد يقول قائل: وماذا لو كانت هذه خدعة، ومالوا للسلم لا للسلم، ولكن للكر علينا وخداعنا؟ فيجيب القرآن على أصحاب هذا الظن بقوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) (الأنفال: 58)، إن ظن المسلم خيانة فعليه أن ينهي العهد ويُعلم الغير بانتهاء العهد، ليكون كل فريق على بينة من أمره، ولا مجال للخيانة في دين الإسلام.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم» (رواه أبو داود، وحسنه صاحب الجامع الصغير).