لم تكن أهمية تداعيات الأحداث التي قادتها حركة الضباط الأحرار المصرية في 23 يوليو 1952م على المستويين العربي والعالمي تنحصر في مجرد إزاحة الملك فاروق عن الحكم وتحول البلاد من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، فمصر لم تكن البلد الوحيد وقتئذ الذي يحكمه نظام ملكي الذي ربما يراه البعض مستبداً وفاسداً، وإنما تمثلت أهمية هذه التداعيات في أنها منحت الكثير من حركات التحرر في بلدان العالم العربي وغيرها من الدول النامية في أفريقيا وآسيا الأمل في إمكانية إزاحة كل نظام حكم خضع لهيمنة الدول الإمبريالية الاستعمارية التي كانت تقتسم هذه الدول غنيمة فيما بينها لتتحكم في شعوبها وتسرق ثرواتها.
كذلك في الداخل المصري، فقد كان لهذه التداعيات أبعاد أخرى بخلاف التغيرات الظاهرة، فعلى الرغم من أن التحركات التي أدت إليها ارتبطت بالأساس برجال الجيش المصري، فإنها وجدت ظهيراً شعبياً داعماً ومؤيداً؛ وهو ما ساهم بشكل كبير في نجاح الحركة في التحكم سريعاً بزمام الأمور، وامتلاك القدرة على تحقيق الأمن والاستقرار دون مشكلات تذكر؛ الأمر الذي عكس إلى أي مدى كان يتطلع الشارع المصري، كما يتطلع الشارع العربي بالفعل إلى مثل هذه التحركات ليس لذاتها وإنما لما يجب أن يستتبعها من خطوات أخرى أكثر أهمية باعتبارها الهدف الحقيقي من وراء هذا الدعم، لعل أهمها تقليل الفجوات الطبقية وتوسيع دائرة المشاركة السياسية ومواجهة مخطط تهويد القدس واحتلال فلسطين، فضلاً عن اتخاذ كل الإجراءات الممكنة لإذكاء الشعور بالهوية العربية والإسلامية والانتماء الوطني الذي أصيب بهزة عنيفة جراء السياسات الدؤوبة للتغريب.
تنامي الشعور بالهوية
ربما كان للمواجهات الحادة والمتتالية للمصريين والعرب خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين مع كل من الاحتلال الفرنسي والبريطاني فضلاً عن الإيطالي والإسباني وغيره الفضل الحقيقي في تنامي الشعور بالهوية الإسلامية والقومية، وكذلك الانتماء الوطني سواء في مصر أو في العالم العربي؛ وهو ما انعكس على برامج وأفكار بعض الأحزاب والحركات السياسية والدينية التي تأسست مع بدايات القرن العشرين، وبرز منها مثلاً في مصر الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، ثم محمد فريد، وكذلك حركة مصر الفتاة بقيادة أحمد حسين، وجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا، وغيرها من التنظيمات آنذاك، وهي المشاعر التي جاءت كرد فعل على السلوكيات الشائنة للاحتلال لتصبح بعد فترة من المواجهات العنصر المشترك الذي يربط أبناء كل وطن بعضهم ببعض يدفعهم للاستمرار ويعبر عن وحدة القضية.
وبالطبع، فقد جسد الاحتفاء الشعبي المصري والعربي بالتحولات التي جرت بعد 23 يوليو 1952م حالة الإحساس بزهوة الانتصار لهذه المشاعر، وذلك بعد نضالات امتدت لعقود، كون أن الأمة استشعرت أن بإمكانها أن تكون فاعلة حقيقية تحرك الأحداث وفق مصالحها لا مصالح غيرها، وأن هذه التحولات الواقعة في مصر ستكون بداية لسلسلة من التحولات لتعزيز الهوية ومن ثم تحقيق الاستقلال والتخلص من التبعية.
الاستغلال والتوظيف
والحقيقة أن السلطة بمصر وكل الأنظمة والأطراف العربية الداعمة لها آنذاك لم تتوان في استغلال تلك المشاعر وتوظفها بمختلف الأشكال لترسخ أقدامها، وذلك عبر تسليط الضوء على التباينات الكبيرة بين أوضاع بائدة وعهد جديد، بالإضافة إلى تقديم العديد من المشروعات التي تقلل من الفجوة الطبقية كقوانين الإصلاح الزراعي، أو تسهم في تطوير عجلة الإنتاج والتنمية كتأميم قناة السويس وبناء المصانع وتشييد السد العالي؛ وهو ما عمل بكل تأكيد على تأجيج الإحساس بالكرامة الوطنية.
كذلك لم تتردد السلطة والداعمون لها في توجيه كل ما لديهم من إمكانات إعلامية ودعائية للترويج لامتلاكها قدرات عسكرية هائلة وغير مسبوقة بالتزامن مع توطيد العلاقات العربية العربية في إطار تحقيق مشروع وحدوي عربي يعمل على تشكيل جبهة موحدة يمكنها مواجهة المشروع الصهيوني وتحرير كامل فلسطين، وهي الدعاية التي كان لها مفعول السحر في نفوس القطاعات الشعبية العريضة من المحيط للخليج؛ فاندفع الكثيرون يؤيدون ويدافعون بل يبررون أحياناً كثيرة كل ما تفعله السلطة أو تتخذه من قرارات سواء مما اتسق منها مع المعلن أو خالفه.
انكسار الحلم
غير أن الحلم الجميل لم يدم كثيراً، فاستيقظ المصريون ومعهم كل الشعوب العربية ودول العالم الثالث يوم 5 يونيو 1967م على فجيعة كبرى، حيث هزيمة نكراء استمرت لـ6 أيام أمام قوات الاحتلال الصهيوني، لم تكن نتائجها تثبيت سيطرته على ما احتل عام 1948م فحسب، بل منحته أيضاً مساحات جديدة في فلسطين وسيناء والجولان السورية.
وكما لم تكمن أهمية أحداث 23 يوليو 1952م في إزاحة ملك وتغيير نظام حكم فقط، كذلك فلم تكن خطورة هزيمة يونيو 1967م في مجرد وقوع هزيمة عسكرية لجيش أمام جيش، بل إنها كانت نقطة تحول عميقة أثرت بشكل جذري وسلبي على مشاعر الهوية والانتماء الوطني لدى قطاعات شعبية ليست بالقليلة، حيث انكسار الروح القومية واهتزاز جدوى مشروع الوحدة العربية وتراجع الثقة في الزعماء العرب الذين تبنوا هذه المشاريع؛ ومن ثم الشعور باليأس والإحباط.
وهي الحيثيات التي أدت في نهاية الأمر إلى دعوة البعض للتقوقع داخل إطار مفاهيم الوطنية القُطرية ومعاداة المشروع الوحدوي، ومن ثم اندلاع نزاع سياسي وأيديولوجي تأججت نيرانه ولم تخمد بعد حتى اللحظة بين تيارين؛ ما استنزف الكثير ولم يزل من الطاقات وأضعف الهوية العربية المشتركة.
هوية واعية
لكن على الجانب الآخر، فإن هناك بعداً إيجابياً لا يمكن تغافله، فقد دفعت هزيمة يونيو وبرغم مراراتها -التي استشعرها الجميع- قطاعات أخرى شعبية ونخبوية إلى مراجعة الأسباب التي أدت إلى هذه الهزيمة، وأن هناك مثالب عميقة منيت بها السلطة هي التي أدت إلى هذه النتيجة، يبرز منها نزاع ظاهري وخفي على السلطة، وإلغاء الأحزاب السياسية، والانفراد الكامل بالسلطة والتمحور حول الزعيم، وإطلاق يد الأجهزة الأمنية بلا رقابة أو حساب، والانحياز لأيديولوجيات سياسية واقتصادية فتحت الباب على مصراعيه أمام تيارات فكرية علمانية ومادية وإلحادية تعبث في الجامعات والمؤسسات الثقافية والإعلامية، ومن ثم علاقة باهتة مع الأطروحات الإسلامية، فضلاً عن أنها اتسمت بالكثير من العداء مع المنحازين للرؤية الإسلامية.
وبالطبع، كانت تلك العملية من المراجعة والنقد الذاتي كفيلة بأن تدفع الكثيرين أيضاً إلى طرح رؤية جديدة بشأن الهوية ومفاهيم الانتماء الوطني وعلاقتهما بالقيم والتوجيهات الدينية، والعودة للجذور الإسلامية التي تتضمن أسساً أكثر صلابة وواقعية، وبالتالي فهي البديل الأفضل والأجدر القادر على مواجهة التحديات، كون أن الإسلام يحمل بين جنباته كل ما تحتاجه المجتمعات لتحقيق النهضة؛ فهو يشتمل على مفاهيم العدالة الاجتماعية الحقيقية ومبادئ الشورى والمساواة وتحكيم القانون بلا تمييز وتكافؤ الفرص، والحث على بناء القدرات وحشد النفوس والأرواح للصمود والمقاومة ومواجهة الإمبريالية، بالإضافة إلى حل إشكالية دوائر الانتماء الوطني والقومي والإسلامي، وأنها متداخلة لا تعارض بينها.. وغير ذلك، وهو الطرح الذي لاقى قبولاً وترحيباً من المجتمعات فاستمسكت به تدافع عنه وتسعى لتحقيقه كاملاً يوماً ما.