لمَّا خلق الله تعالى الخلق، جعل لكل إنسان صفات وخصائص جسمية وعقلية ونفسية تختلف عن غيره، وتلك آية في الخلق كما قال جل في علاه: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22).
والتنوع في الخلق من سنن الله تعالى، وأثر من عظمته في الخلق والإبداع، فلا غرو أن هوية كل شخص تختلف عن غيره من الناس؛ الأمر الذي يجعله غير متماثل مع غيره، يقول أمين معلوم في كتابه «الهويات القاتلة»: «هويتي هي ما يجعلني غير متماثل مع أي شخص».
تتشكل الهوية من جملة من العناصر المتفاوتة في القوة والأهمية، بدءاً من الاسم والنوع والعبادات والعقيدة والمذهب والعائلة أو القبيلة والمدينة والدولة، كل هذه العناصر وغيرها تشكل الهوية الشخصية.
التحديات التي تواجه هوية المسلم في الغرب
هناك العديد من التحديات التي تواجه شخصية المسلم المعاصر بوجه عام، وشخصية المسلم الذي يعيش في الغرب بوجه خاص، سواء كان من الوافدين أو من الذين وُلدوا هنا من الأجيال الجديدة، من أهمها ما يلي:
– وضوح الغاية من الوجود:
أسئلة وجودية شائكة تتعرض لها الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين ولا يجد الكثير منهم لها جواباً وافياً كافياً في ظل حضارة مادية شديدة الطغيان والوطأة على القلب والروح.
تلك الأسئلة التي تتعلق بالغاية من الحياة وسر الوجود، وماذا بعد رحيلنا من الدنيا؟ وما علاقتنا بالكون من حولنا؟ ومن أكون؟ ربما تلك الأسئلة في البلاد العربية والإسلامية لا تُطرح بهذا الوضوح، فضلاً عن كونها مصدر إلحاح على عقول شبابنا في الغرب.
البيئة الغربية مصدر الإلحاد ومنبت التشكيك في المُسلَّمات اليقينية ومنطلق العصيان على الأديان
إن البيئة الغربية مصدر الإلحاد ومنبت التشكيك في المُسلَّمات اليقينية ومنطلق العصيان على الأديان، وغير بعيد عنا ما أحدثته فترة العصور الوسطى في علاقة الكنيسة بالحياة؛ الأمر الذي جعل الدين في زاوية الاتهام وعرضة للقصف كل حين.
ليس هنا ما يشجع على التدين ويدعو إليه، بل العكس، على الرغم من الإقبال المتزايد على الإسلام في الآونة الأخيرة نتيجة لجملة من الأسباب لا يتسع المقال للحديث حولها.
هذا التحدي يفرض على الأسرة والمؤسسات الإسلامية واجبات كثيرة في تزويد الأجيال الجديدة بالمعارف الرصينة التي تغرس اليقين وتحمي العقيدة والدين، وتقي الشباب مصارع ضياع الفكر وضلال الفهم وانحراف الغاية.
– إسلام بمواصفات غربية:
لم يكن الإسلام في يوم من الأيام خصماً للشعوب، بل انحاز دائماً وأبداً إلى المظلومين والضعفاء، وهل هناك دين أعلن حرباً من أجل الفقراء إلا الإسلام؟ فحينما رفضت قبائل العرب دفع الزكاة لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فما كان منه إلا أن مرَّغ أنوفهم في التراب وأعلن قتالهم دفاعاً عن حق الفقراء.
إنَّ الإسلام يقف كالجبال الرواسي في وجوه الطغاة وأصحاب المصالح والمطامع والأهواء ومن يأكلون أموال الناس بالباطل، وهو في الوقت نفسه يمد يده بالسلام ويفتح عقله للحوار البنَّاء، وقلبه بالخير لكل الناس وجوارحه بالعطاء والندى.
هناك ملايين الدولارات التي تُنفق على مراكز الأبحاث بالغرب والشرق للصد عن سبيل الله تعالى
غير أن الملأ من «اللوبيات» يرون في الإسلام تحدياً لمصالحهم وعقبة دون أجنداتهم وثقافتهم، وحائلاً دون أساليب الحياة التي يريدون صبغ العالم بها؛ لذلك تراهم لا يتوقفون عن محاولات متكررة تهدف إلى صناعة إسلام على مقاسات النموذج الغربي، يريدون إسلاماً مستأنساً، يريدونه رجلاً ضعيفاً مريضاً يقبل كل ما يُملى عليه، فقط عليه أن يوقّع دون معارضة، يريدون قرآناً بلا سُنة، وعقيدة بلا شريعة، وأحكاماً متغيرة، ثم بعدها لن يرضوا عنا مهما بذلنا لهم من ديننا وهويتنا.
فهذا من التهديدات الكبيرة التي تواجهه الأجيال الجديدة في الغرب، وهناك عشرات الملايين التي تُنفق على مراكز الأبحاث للصد عن سبيل الله تعالى، والأخطر في الأمر أن كثيراً من أبناء المسلمين يستهلكون ما تنتجه الجامعات الغربية من دراسات ومضامين معرفية تقوم في أغلبها على صناعة إسلام غير الصبغة التي أرادها الله تعالى لنا؛ (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ) (البقرة 138).
وقد أصدرت مؤسسة «راند» التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية تقريراً عام 2007م حول النموذج المناسب للإسلام الذي تريده أمريكا، حيث يمكن لقوى الاستعمار قديماً وحديثاً أن تقبل الإسلام ذا النكهة الصوفية، لكنها لا تقبل الإسلام الحي، الذي يصل الدنيا بالآخرة، والعقل بالنقل، ويربط العلم بالإيمان، ويوازن بين المادة والروح، والثوابت والمتغيرات، ويجعل شخصية المسلم شخصية مستقلة الفكر والنظر والوجهة والاختيار، تقبل كل جديد نافع، وترد ما يعارض قيمها وعقيدتها ولا كرامة.
فهذا تحدٍّ كبير تواجهه هوية المسلم في الغرب، غير أننا نؤكد أن جهوداً جبارة، على كل صعيد، تبذلها المؤسسات الإسلامية والأسر المسلمة من أجل حفظ هوية الأجيال الجديدة.
– الأسرة وتحدي الهوية:
لا تخطئ العين أنَّ الأسرة في زماننا وبيئتنا لم تواجه حرباً كونية على قيمها وأصولها ومفهومها كما تواجهه الآن، ومن الأهمية بمكان أن تدرك الأسرة المسلمة في الغرب التغيرات الفكرية التي طرأت على مفهوم الأسرة ما بعد الحداثة كما يقول د. طه عبدالرحمن في كتابه «روح الحداثة»، حول الأفكار التي طرأت على مفهوم الأسرة من منظور غربي تحت عنوان «نظام الأسرة الغربية والتفصيل الموجه»: أريدَ للأسرة الحداثية الانفصال عن الأخلاق التقليدية التي مصدرها الدين على اعتبار أنها في زعمهم لا إنسانية ولا عقلانية ولا دنيوية، فذهبوا إلى ضرورة فصل الأخلاق عن الدين باعتماد مبادئ ثلاثة:
الأول: مبدأ التوجه إلى الإنسان باعتباره قادراً على تدبير أمور نفسه ويستطيع أن يقوم بنفسه؛ أي: الانفصال عن الإله!
الثاني: التوسل بالعقل، بأن نترك التوسل في أفكارنا وسلوكنا بالوحي ونقتصر فيها على التوسل بالعقل؛ أي: الانفصال عن الوحي!
الثالث: مبدأ التعلق بالدنيا، بأن نترك التعلق في أعمالنا ومعاملاتنا بالآخرة ونقتصر فيها على التعلق بالدنيا؛ أي: الانفصال عن الآخرة!
التهديدات التي تواجهها مؤسسة الأسرة عبر القوانين والتشريعات نذير شؤم على العالم أجمع
ونجد أن هيمنة تلك المبادئ على أخلاق الأسرة المعاصرة تُفضي إلى مزيد من عزل الأخلاق عن الدين في إطار الأسرة وعزل الأسرة عن المجتمع، بل عزل الأسرة عن نفسها.. إن أساس صلاح العالم بأسره في سلامة الأسرة، وأس خراب الدنيا في انهيار الأسرة؛ لذلك نجد العناية الكبرى بالأسرة المسلمة ومنظومتها الكاملة في القرآن الكريم وتحديداً في سورة «البقرة» في آيات كثيرة.
ثم نجد الإشارة الواضحة في سورة «الطلاق» إلى أن خراب العالم في انهيار الأسرة، وتأمل قوله تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً {8} فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً {9} أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) (الطلاق).
إن التهديدات التي تواجهها الأسرة المسلمة بوجه خاص والأسرة بوجه عام عبر القوانين والتشريعات وحالة الإرهاب الفكري والنفسي التي تمارسها دول ومؤسسات على المجتمعات، والسعي المجنون لفرض النموذج المنحرف عن الفطرة على الجماهير؛ لهو نذير شؤم على العالم، والواجب على كل عاقل رشيد أن يتمسك بهوية الأسرة ونموذجها الفطري الذي فطر الله تعالى الناس عليه.