لبعض الاستحقاقات الانتخابية، تبعاً لأهميتها، تأثيرات وارتدادات على المشهد السياسي والحزبي في تركيا، والانتخابات المحلية الأخيرة التي أجريت نهاية مارس الماضي من هذا النوع من الانتخابات؛ إذ رغم أنها انتخابات محلية تتعلق بعمل البلديات، فإنها حَمَلت وحُمّلت أبعاداً سياسية قبل الاستحقاق وبعد ظهور النتائج، وتحديداً بعد حلول حزب العدالة والتنمية في المركز الثاني بعد خصمه التقليدي حزب الشعب الجمهوري لأول مرة.
قبل هذه الانتخابات، ومنذ اعتماد النظام الرئاسي في البلاد عام 2017م، تبلورت ظاهرة واضحة في الحياة السياسية التركية هي تشظي الأحزاب التقليدية الكبيرة، فقد تأسس حزبان خرجا من رحم العدالة والتنمية برئاسة القياديين السابقين في الحزب أحمد داود أوغلو، وعلي باباجان، وانشق أكثر من حزب من الشعب الجمهوري، أهمها حزب البلد بقيادة المرشح الرئاسي السابق محرم إينجة، وأسس فاتح أربكان (نجل رئيس الوزراء الأسبق والقيادي الإسلامي المعروف نجم الدين أربكان) حزب الرفاه مجدداً الخارج من عباءة حزب السعادة، كما تأسست عدة أحزاب قومية خرجت من الحزب الجيد الذي كان أصلاً انشقاقاً عن حزب الحركة القومية.
منذ اعتماد النظام الرئاسي عام 2017م تبلورت ظاهرة تشظي الأحزاب التقليدية الكبيرة
والسبب الرئيس الذي أدى لهذا التشظي هو تطبيق النظام الرئاسي في البلاد، الذي انتقلت معه الأهمية القصوى من مجلس الأمة الكبير (البرلمان) والحكومة -وبالتالي الأحزاب السياسية- إلى مؤسسة الرئاسة والرئيس؛ ما جعل الأحزاب أقل أهمية نسبياً في المعادلة السياسية الداخلية، لا سيما أن النظام الرئاسي منح صلاحيات واسعة للرئيس وحكومته على حساب البرلمان المشكّل من الأحزاب السياسية المختلفة.
وهو سبب رئيس يضاف إلى أسباب أخرى سابقة من بينها الأزمة الاقتصادية والجمود السياسي في البلاد في السنوات القليلة الأخيرة، وبحث النخبة السياسية وبعض الشرائح المجتمعية عن بدائل جديدة للأحزاب القائمة المعروفة.
دائماً ما كانت للانتخابات انعكاسات على الحياة السياسية، وخصوصاً الانتخابات التشريعية، إلا أن الانتخابات المحلية الأخيرة امتلكت القدرة على التأثير لأنها حُمّلت رهانات إضافية، مثل ادعاء العدالة والتنمية القدرة على استعادة بلديتي أنقرة وإسطنبول، ورهن رئيسة الحزب الجيد ميرال أكشنار مستقبلها في رئاسة الحزب بنتيجة الأخير في الانتخابات، وتغيير رئيس حزب الشعب الجمهوري قبيل الانتخابات.
المعارضة
انصبَّ الارتداد الأكبر للانتخابات الأخيرة في صفوف المعارضة على الحزب الجيد، حيث كانت رئيسته أكشنار رفضت بشكل قاطع التحالف مجدداً مع حزب الشعب الجمهوري واعدة بتقدم كبير لحزبها، ومتعهدة بتحمل المسؤولية كاملة في حال لم يحصل ذلك.
ولأن الانتخابات أتت بتراجع كبير لحزبها جعله في مقدمة الخاسرين، فقد دعت لمؤتمر استثنائي للحزب لانتخاب رئيس جديد ولم تجدد ترشحها فيه، فكان أن تنحت عن الرئاسة وعن العمل السياسي إلى حد كبير، بعد انتخاب مُسوَّد دوريش أوغلو رئيساً جديداً للحزب الجيد.
الرسالة الأبرز التي خرج بها «العدالة والتنمية» بعد الانتخابات ضرورة التغيير والتجديد
النتيجة المتراجعة وتغيير الرئيس يعنيان أن الحزب الجيد سيكون منشغلاً في المرحلة المقبلة في ترتيب البيت الداخلي وإعادة تنظيم صفوفه ومحاولة استعادة ثقة الشارع وخصوصاً الشريحة القومية، ويعنيان كذلك أن حظوظه في مرحلة ما بعد دولت بهجلي (رئيس حزب الحركة القومية وزعيم التيار القومي في تركيا) تراجعت بشكل ملحوظ حتى إشعار آخر أو تغير كبير غير متوقع حالياً.
من زاوية أخرى، لم تفز الأحزاب الصغيرة المعارضة حديثة التأسيس –باستثناء الرفاه مجدداً– برئاسة بلدية أي مدينة كبرى أو محافظة، وحصلت على نتائج متواضعة جداً في الاستحقاق الذي دخلته بشكل منفرد بعد الانضمام لتحالف الأمة المعارض في الانتخابات الرئاسية والتشريعية العام الماضي، ويعني ذلك أن استمرار حضور هذه الأحزاب في المشهد السياسي الداخلي على المحك اليوم ويحتاج منها لعمل استثنائي لتثبيت أنفسها ومواقفها وبرامجها وإقناع الشارع بها.
أما التأثير الأكبر في صفوف المعارضة فيرتبط بأكبر أحزابها الشعب الجمهوري، الذي كان شهد معركة داخلية أسفرت عن الإطاحة برئيسه كمال كليجدار أوغلو لصالح مرشح تيار التغيير فيه أوزجور أوزال، وقد عززت النتيجة التي وضعت الحزب أولاً للمرة الأولى منذ عقود رئاسة أوزال وأكدت أن التغيير في رئاسة الحزب جاء لمصلحة الأخير، ورفعت معنويات تياره بشكل كبير.
ولذلك، يتعامل الحزب المعارض مع المرحلة الحالية –ما بعد الانتخابات– بمعنويات عالية وشعارات مختلفة، حيث يردد بأن الشعب اختاره لقيادة البلاد رغم أن الانتخابات محلية، كما سبق شرحه، ومن تمظهرات هذه الثقة زيارة أوزال لحزب العدالة والتنمية واستقبال أردوغان في مقر حزبه، وهو الأمر الذي لم يفعله سلفه لسنوات طويلة.
التحالف الحاكم
في الطرف الآخر، ينطبق ما قلناه عن الحزب الجيد على حزب الحركة القومية المتحالف مع العدالة والتنمية، باستثناء استمرار رئيسه بهجلي في قيادته، لكن الحزب تراجع بشكل ملحوظ دفع الرئيس أردوغان لإعادة النظر في منطق التحالف معه وصياغته وارتداداته على العدالة والتنمية، وعلى ذلك مؤشرات وقرائن تحتاج تفصيلاً لا تحتمله مساحة المقال الحالي.
أما الارتداد الأبرز أثراً فكان على العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد منفرداً وفاز بكل الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها منذ عام 2002م، ليحل ثانياً للمرة الأولى، وأحد أبرز تجليات تأثر الحزب الحاكم ظهور منافس قوي من بين الأحزاب المحافظة حديثة التأسيس وهو الرفاه مجدداً بقيادة فاتح أربكان، حيث حلَّ الأخير ثالثاً في أول انتخابات محلية يخوضها، وبشكل منفرد دون تحالفات؛ ما جعله الحصان الأسود للاستحقاق الانتخابي الأخير.
الارتدادات السياسية للانتخابات الأخيرة فاقت قيمة الاستحقاق البلدي وأهميته التقليدية
ورغم أن فرص الرفاه مجدداً في أي انتخابات تشريعية مقبلة ليست مرتفعة جداً نظراً لأيديولوجيته التي تحدُّ من الشرائح التي يمكن أن تختاره، فإن هذا التطور دفع العدالة والتنمية لسلسلة من المراجعات لتضييق مساحات المناورة والمنافسة أمام الحزب الإسلامي الجديد، وفي مقدمتها القرارات المتعلقة بالعدوان على قطاع غزة والتجارة مع الكيان الصهيوني التي اتخذها الرئيس أردوغان والحكومة بعد الانتخابات.
في المقابل، فإن الرسالة الأبرز والأقوى والأوضح من الانتخابات خرج بها العدالة والتنمية نفسه وهي ضرورة التغيير والتعديل والتطوير والتجديد، وهي الرسالة التي وعد الرئيس التركي بالعمل بمفادها في المرحلة المقبلة، وأول المسارات التي وعد بها الأخير هو المؤتمر العام للحزب الذي بدأت محطاته الأولى بالاجتماعات الاستشارية مع رؤساء البلديات والكتلة البرلمانية للحزب، ويفترض أن تشهد محطته الأخيرة تجديد الهيئات القيادية الرقابية والاستشارية والتنفيذية فيه.
بيد أن العدالة والتنمية يدرك أن هذا القدر من التغيير، الذي يصاحب مؤتمراته عادة، لن يكون كافياً اليوم مع النتيجة الثقيلة والرسالة الواضحة من الشعب، ويدلل على ذلك تصريح أردوغان بأن ما حصل ليس مجرد خسارة أصوات في الانتخابات، وإنما خسارة روح وثقة ناخبين؛ ما قد يؤدي للذوبان مثل الثلج تحت الشمس ما لم يستدرك الحزب.
ولذلك، وبعد التقييم الدقيق لنتائج الانتخابات الأخيرة، يعيد الحزب في هذه المرحلة تقييم مجمل سياساته ومواقفه وخطابه وبعض تحالفاته، واتخاذ القرار فيما يحتاج منها لتعديل أو تغيير، إذ إن تغيير بعض الأسماء في رئاسة فروع الحزب في المحافظات أو في الهيئات القيادية فيه لن يكون كافياً لاستعادة ثقة الشرائح التي قدمت رسالة الاحتجاج في صناديق الاقتراع.
وفي المحصلة، فقد فاقت الارتدادات السياسية والحزبية للانتخابات الأخيرة قيمة الاستحقاق البلدي وأهميته التقليدية، فكان لها آثار مباشرة وغير مباشرة على مجمل الأحزاب السياسية، ووضعت مختلف الأحزاب أمام استحقاقات مهمة حتى لحظة الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة في عام 2028م، التي يبدو أنها ستحدد مصائر بعض الأحزاب وقياداتها.