يبدو سؤال النهضة السؤال المركزي الذي تطرحه أمتنا منذ عقود طويلة، لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ وكيف نستطيع النهوض من جديد؟ هل ننهض من القمة أم من القاعدة؟ من بوابة السياسة أم الاقتصاد؟ من الفكر أم الممارسة والحركة؟
يبدو سؤال النهضة مثيراً للكثير من الخلافات وترتب عليه قيام مدارس فكرية تختلف كثيراً في فهم طبيعة الدين ودوره والعلاقة بينه وبين المتدينين سواء في العصر الحالي أو في العصور السابقة، لا نقول بين الدينيين واللادينيين، بل بين أنصار التيار الديني نفسه، سؤال شائك ينطوي على الكثير من الأسئلة التفصيلية اختلط بإحباطات متتالية كان أشدها التجارب التي فشلت أو التي أفشلت، الفوضى اللاخلاقة التي سادت المنطقة فأعادتها لأشد مربعات الجمود، تحالف القوى الإمبريالية مع الفاسدين من جهة والقابلين للاستعمار من جهة أخرى وما نتج عن ذلك من اختلال توازن القوى بين المتطلعين للنهضة الحضارية لأمتنا الذين لم يستطيعوا حتى اللحظة الإجابة الوافية عن سؤال كيف ننهض؟ وبين أذناب الاستعمار بكل صورهم وما يمتلكون من أدوات القوة والتأثير والإعلام.
كثير من الشباب التائه في بحر السماوات المفتوحة قد تجاهل سؤال النهضة هذا، ربما لأنه يرى أنه ليس أهلاً للإجابة أو حتى التفكير في الأسئلة الكبيرة التي تحتاجها أمتنا، وربما لأنه يشعر بالعجز وأنه لا يمتلك ما يقدمه كإجابة عن هذا السؤال، أو ربما إحباطاً من هؤلاء الذين قادوا تجارب فاشلة رفعت رايات النهضة من قبل، أو لأنهم يشعرون أنهم لا يستطيعون مواجهة نظام عالمي مكرس لتخلف أمتهم فقرروا أن يتباعدوا عن أمتهم، يهجروا لغتها، لا يسعون لإصلاح أو تقدم، وربما تمركزت أحلامهم بالهجرة عنها إلى حيث مجتمع متقدم بالفعل يستطيع إشباع إنسانيتهم التي أهدرت حاجياتها في بلادهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن بحاجة حقاً عن الإجابة التفصيلية عن سؤال النهضة؟ هل لا بد أن نعبر للنهضة عبر بواباتها الكبرى وقضاياها المركزية؟ هل هناك ثمة أدوات نستطيع بها تجاوز ذلك الطعم اللاذع للعجز عن الحركة؟ هل هناك آلية لاجتذاب الشباب بعيداً عن الثقوب السوداء التي تسعى لابتلاع هويتهم الحضارية، أو بمعنى أدق هل ثمة بوابات صغيرة يمكن عبرها تسلل الشباب حيث أرض النهضة؟
بوابات صغيرة
يقال: إن الشيطان يكمن في التفاصيل، ويمكننا القول: إن الملائكة أيضاً تفعل؛ فقد انحدرت أمتنا عبر تفاصيل صغيرة وخطوات بطيئة وربما هامشية أيضاً؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) (النور: 21)، وربما نستطيع النهضة بنفس الطريقة الجزئية؛ «لا تحقرن من المعروف شيئاً» (رواه مسلم)، إنها ذرة الخير والشر التي تحدث عنها القرآن الكريم.
ذرة الخير هي بوابة صغيرة وقد تكن متناهية الصغر تتسم بالسهولة والجاذبية وتتحدي صعوبة البدء وتقاوم مشاعر العجز، وهي كثيرة ومتنوعة تنوع اهتمامات الشباب، وفي حديث مسلم السابق نماذج لها؛ «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وتسبيل الإزار فإنه من الخيلاء والخيلاء لا يحبها الله عز وجل، وإن امرؤ سبك بما يعلم فيك فلا تسبه بما تعلم فيه»، بوابات صغيرة للنهضة تقديم الدعم لمن يحتاج، الابتسامة في وجه الغير، التواضع، تجنب الإيذاء النفسي.
نماذج أخرى لبوابات صغيرة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم: «تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة» (متفق عليه).
ولو أخذنا نموذجاً واحداً لبوابة صغيرة ألا وهي إماطة الأذى عن الطريق التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها أقل شعبة من شعب الإيمان؛ أي أصغرها وأبسطها، إنها تصلح جداً لتعاطي الشباب معها بإيجابية، فالشباب المنبهر بمدن الغرب المتألقة بنظافة وجمال شوارعها يمكنه أن يجعل من مثل هذا التحدي قضية مركزية له، يمكنه أن يقيم الفعاليات ويشارك في الأنشطة، يمكنه أن يتوسع فينشط في زرع الأشجار في الطرق أو زرع أسطح المنازل؛ «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل» (رواه أحمد).
يمكنه أن يفعل ذلك كله كناشط بيئي ومقاوم للاحتباس الحراري وكإنسان يستطيع تحمل المسؤولية في هذا العالم وفي الوقت ذاته كمسلم يرى تفاصيل كثيرة غاية في الأهمية يشتمل عليها دينه، تفاصيل تستطيع نقله ومجتمعه للجانب الآخر من الحضارة.
بوابة مزدوجة
يمكن لبوابات النهضة الصغيرة أن تؤدي دوراً بالغ الحيوية في جذب الشباب للعبور النهضوي عن طريق منحهم مساحات واسعة من الأمل، فالشعور بالعجز عن التغيير يخنق الشباب، وفي الوقت ذاته تعد هذه البوابات بمثابة نموذج تدريبي للشباب يمكنهم الارتقاء عبره لبوابات تمثل تحديات أكبر، وهذا التدرج هو جزء من الإستراتيجية التي اتبعها القرآن الكريم في الارتقاء بالجماعة المؤمنة.
الشرط الوحيد لنجاح هذه البوابات الصغيرة في تحقيق الهدف أن ترتبط بها روح إيمانية عالية تحسن الظن بالله تعالى وتتلمس خطوات الطريق بإخلاص.
علينا أيضاً ملاحظة أن هذه البوابات الصغيرة هي بوابات مزدوجة، فهي تؤدي بشكل تلقائي لبوابات كبرى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) (المدثر)، فالتطهر البسيط هو الطريق أو البوابة للغاية الكبرى للعبادة، وإماطة الأذى أو حماية الحيوان أو تشجير الطريق أو ممارسة الانضباط والبعد عن سلوك المزاحمة كلها بوابات صغيرة لممارسات أكثر حيوية على طريق النهضة الحضارية.
بمعنى أدق، تمثل البوابات الصغيرة للنهضة تمهيداً تلقائياً لبوابات التحدي الكبيرة بعد ذلك، وفي الوقت ذاته تمثل تدريباً نموذجياً للقدرة على تحمل المسؤولية الحضارية والنجاح في عبورها يمنح الشباب الوقود الحيوي للاستمرار والسير على طريق النهضة؛ لأنه يستطيع أن يمثل رقماً مهماً في المعادلة الحضارية النهضوية.
البوابات الصغيرة لا تعني تجاهل القضايا الكبرى والانشغال بأخرى هامشية كما يتصور البعض، بل تلقي الضوء على مساحات لم تأخذ حقها من الاهتمام، رغم أنها شديدة الارتباط بالقضايا الكبرى، وتجاهل هذه البوابات الصغيرة يقولب الدين في صور جامدة بعيدة عن التفاصيل النابضة بالحياة.
ولو ضربنا مثلاً ببوابة صغيرة أخرى ألا وهي التذوق الجمالي التي تهذب روح الإنسان وتجعل مشاعره أكثر رقة وضميره أكثر شفافية، سنجد أنها مقصد قرآني؛ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) (النحل: 8)، فالزينة أي القيمة الجمالية مقصد لا تقل أهميته عن القيمة الوظيفية لوسيلة الانتقال والركوب، وهو ما ينطبق على ألوان النباتات ونجوم السماء.
هذا التذوق الجمالي أو الدافع الجمالي الذي اعتبره المفكر الجزائري مالك بن نبي إحدى ركائز النهضة نجده مهمشاً بوجه عام تحت مطارق الخلاف الحادة حول بعض القضايا، فلماذا لا نعيد الاعتبار له؟ لماذا لا يحلم شبابنا بمدن بجمال غرناطة بدلاً من التغني بشوارع باريس؟
البوابات الصغيرة متعددة، وكل بوابة قد تجتذب شريحة معينة من الشباب، وهو ما نحتاجه بشدة للسير الحثيث على طريق النهضة.