من أعظم نعم الله تعالى على عباده أن يهديهم إلى الصراط المستقيم، فمن هداه الله إلى الصراط المستقيم فعليه أن يشكر الله على هذه النعمة، قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) (لقمان: 12)، وقال سبحانه: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان: 3)، وقال عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) (البقرة: 243)، وقد دعانا الإسلام إلى الشكر لله تعالى من خلال الحديث عن شكر الله تعالى بعد أداء العبادات، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: الأمر بالشكر بعد العبادات:
1- الشكر لله بعد الوضوء والطهارة، فقد قال الله عز وجل: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6).
2- الشكر لله تعالى بعد أداء الصلاة، فقد روى ابن حبان عن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إني لأُحِبُّكَ وَاللَّهِ إني لأُحِبُّكَ أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّى عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ».
3- الشكر لله تعالى بعد الصدقات، فقد قال تعالى بعد أداء شعيرة الذبح للأضاحي والهدي، والتصدق منها: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الحج: 36).
4- الشكر لله تعالى بعد الصيام، قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (البقرة: 185).
5- الشكر لله تعالى بعد الحج، قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة: 158)، وقد دعا سيدنا إبراهيم عليه السلام ربه أن يجعل أفئدة من الناس تهوي إلى البيت العتيق، وأن يوسع رزق أهله حتى يشكروا ربهم تبارك وتعالى، فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم: 37).
إن هذه المواضع المتعددة من الأمر بشكر الله تعالى بعد العبادات المتنوعة تؤكد أهمية الشكر لله تعالى وضرورة القيام به.
ثانياً: ما الشكر؟ وما الفرق بينه وبين الحمد؟
الشكر هو عرفان النعمة وإظهارها والثناء بها(1)، وقيل: هو فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لأجل النعمة، سواء أكان نعتاً باللسان، أو اعتقاداً، أو محبة بالجنان، أو عملاً وخدمة بالأركان(2).
والفرق بين الحمد والشكر أن الحمد ثناء بالقلب واللسان بقصد التعظيم، وليس شرطاً أن يكون بسبب نعمة، أما الشكر فيكون على النعمة ويكون بالقلب واللسان والجوارح والأركان، فالشكر يكون بالقلب خضوعاً واستكانة، وباللسان ثناء واعترافاً، وبالجوارح طاعة وانقياداً، وهو متعلق بالنعم التي أنعم الله بها على الإنسان(3)، فالشكر يستلزم من العبد العمل، بالإضافة إلى الاعتراف بالقلب والنطق باللسان.
ثالثاً: ثمرات الشكر بعد العبادات:
أولاً: الاستجابة لأمر الله، حيث قال الله تعالى: (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (الزمر: 66).
ثانياً: الزيادة في الهداية، فالتوفيق للعبادة هداية من الله، والشكر لله تعالى يضمن الزيادة للعبد فيما شكر الله عليه، فقد قال الله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7).
ثالثاً: الوقاية من الحرمان، فإن من وهبه الله النعم ثم لم يشكر الله عليها فقد كفر بها، ومن فعل ذلك يوشك أن يحرمه الله منها، فقد أخرج الطبراني عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ للهِ عِنْدَ أَقْوَامٍ نِعَمًا أَقَرَّهَا عِنْدَهُم -يَعْنِي: جَعَلَهَا ثَابِتَةً عِنْدَهُمْ- مَا كَانُوا فِي حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ مَا لَمْ يَمَلُّوهُمْ، فَإِذَا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا اللهُ إِلَى غَيْرِهِمْ».
رابعاً: واجبات عملية:
أولاً: الإتيان بالعبادة بعد العبادة شكراً لله تعالى، حيث إن شكر النعمة يكون من جنسها، فمن أوتي القرآن فليشكر الله تعالى بتعهده وتعليمه، ومن أوتي المال فليشكر الله بزكاته، وهكذا، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشكر الله حتى بعد علمنا بقبول الطاعة، ففي صحيح البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال: قَامَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ، فقِيلَ له: غَفَرَ اللَّهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، قالَ: «أفلا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا».
ثانياً: استحضار النعم ومداومة الشكر عليها، فقد قال الله عز وجل: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل: 78)، وقال عز وجل: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15).
ثالثاً: الحذر من الانشغال بالنعمة عن المنعم سبحانه وتعالى، فقليل من الناس من يشكر الله على النعمة، قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13)، وبيّن سبحانه وتعالى أن الشيطان يسعى في إغواء الإنسان حتى لا يشكر الله تعالى، فقد قال عز وجل: (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 17).
فما أحوجنا إلى شكر الله تعالى بعد العبادات، ومداومة شكره على كل حال، حتى نؤدي ما أمرنا الله به، ونكون أهلاً لنعمه وفضله وخيره.
_________________
(1) المعجم الوسيط (1/ 490).
(2) معجم الفروق اللغوية، العسكري، ص 201.
(3) مدارج السالكين، ابن القيم (2/ 237).