من البديهيات أن نقرر أنّه لا بدّ لنا إذا أردنا أن نكون على مستوى مسؤوليتنا، وأن نسلك السبيل إلى النصّر على عدوّنا، أن نعرف هذا العدوّ معرفة واضحة، وأن نزن قوته بمظاهرها المختلفة في الأرض المحتلة وفي العالم كلّه، وأن نعرف قبل ذلك أنفسنا، وأن نزن ما لنا وما علينا بميزان دقيق.
إنّ المعرفة العميقة والتصوّر الواقعيّ الصحيح أساس كلّ تخطيط سليم وعمل مثمر، أما البناء على الأوهام، والانسياق مع العواطف وحدها في عصرنا الحاضر، فلا يعقب إلاّ أكبر الخسارة، والخسارة في معركتنا مع «إسرائيل» ليست خسارة ثانوية بسيطة، إنّما هي خسارة وطن ومستقبل إلى مدى غير قريب.
وفي العمل الفدائي نجد أن من مصلحة هذا العمل، ومصلحة القضية التي كان من أجلها، أن نقوّمه تقويماً صحيحاً، وأن نضعه في موضعه بالضبط، وأن نحدد دوره الذي يجب عليه ويمكنه أن يؤديه.
إنّ من أكبر الأخطار على العمل الفدائي وعلى قضية فلسطين معاً، أنّ قسماً كبيراً من الناس قد خلعوا على هذا العمل من أحلامهم وأوهامهم، فرأوه في صورة خيالية تعلو على واقعه الراهن، وأسندوا إليه في أنفسهم من المهمات، وعلّقوا عليه من الآمال، ما لا يمكن أن ينهض به أو يحققه، وما لا يسوغ أن يطالب به وحده.
ولقد أسهم في رسم هذه الصورة الحكام الذين أرادوا أن يفتحوا للشعب باباً للرجاء حتى لا تنفجر نقمته عليهم، وأن يشغلوه عنهم وعن محاسبتهم أو مطالبتهم بأداء الواجب على الأقل. وأن يستميلوه بما يظهرونه للمقاومة المسلحة من عون وتأييد.. وأسهم في رسم هذه الصورة أيضاً جهات داخليّة وخارجية، ووسائل إعلام رسمية وخاصة، وناسٌ كثيرون لأسباب ودوافع مختلفة.
ومن جوانب هذا الخطر الكبير المتقدم على العمل الفدائي، أن الناس أصبحوا ينظرون منه ويطالبونه بما يناسب صورته في أنفسهم لا بما يستطيعه بواقعه، فإذا عجز عن مجاراة آمالهم التي لم تقم على أساس من الواقع أو قصّر، أدّى ذلك إلى الملل وخيبة الأمل واليأس من كل شيء.
ومن جوانب هذا الخطر أن ينشغل الناس بالعمل الفدائي، وبآمالهم الكبيرة فيه، وباعتقادهم الخاطئ أنه كافٍ لحلّ المشكلة، عن المطالبة بما يجب أن ينهض به كل بلد عربي على الصعيد الرسمي والشعبي، لمجابهة الخطر المكتسح، وتحرير الوطن السليب.
إنّ العمل الفدائي -كما يجب أن يعرف- ما يزال في مراحله الأولى، وهو يتحرّك في ظروف عربيّة ودوليّة من أدق الظروف وأصعبها، ويواجه في الأرض المحتلة عدوّاً غادراً ماكراً مجرماً يحارب بدافع دينيّ وتاريخيّ عنيف، ويخوض معركة وجوده ومصيره أن يكون أو لا يكون، ويمثّل أرقى المستويات في العلم والتكنولوجيا والإدارة والتنظيم، ويمتلك آخر ما وصل إليه البشر من أسلحة ومعدات ومخترعات وخبرات في مقاومة حرب العصابات، ويشكّل الأكثرية الكبرى في الأرض المحتلة قبل الخامس من حزيران، التي لا بدّ من النفاذ إليها للنفاذ إلى مقاتله.
العمل الفدائي والمقاومة الشعبية ركن من أهم أركان المعركة.. هذا صحيح، ولكن يجب أن تكون معه بقيّة الأركان، وأن ينتظمه مع الجهد العربيّ كلّه مخططٌ مشترك جدّي مسؤول، ليكون ما نرجوه من ثمرات ومن نصر بإذن الله.
ولو أن هذا المخطط كان قائماً قبل الخامس من حزيران، أو بالأحرى لو توفّرت إمكانات قيامه بالشكل المناسب، وعلى المستوى المطلوب، واقترن العمل الفدائي بالإعداد العربيّ الصادق وامتلاك القدرة على حماية الحدود.. وبذلت الجهود المناسبة لتأهيله وتسليحه بكل ما يفتقر إليه، وكان انطلاقه في حدود المخطط المشترك.. لو أن ذلك قد حصل من قبل لحققنا بعض ما لم نستطع تحقيقه، وتجنبنا أكثر ما أصابنا.
وما فاتنا في الماضي يجب ألاّ يفوتنا في الحاضر والمستقبل، ولكنّه لن يتحقق إلاّ إذا صمّمت الدول العربية على مواجهة العدوّ، وخوض معركة التحرير، وسلكت طريق الصدق والإعداد الحقّ، لا ما سلكته في الماضي وما تزال تسلكه من كذب على الله والشعب، ومخالفةٍ بين القول والفعل، وتنكّبٍ لسواء السبيل.
وليكن واضحاً كل الوضوح أن العمل الفدائي وحده لا يكفي، وأن انصراف الدول العربية -بواقعها إن لم يكن بكلامها- عن القضية المصيريّة الكبيرة، وقناعتها بما سلم لها موقتاً من الأرض دون العرض، وعودتها إلى حياتها العاديّة، وإلى جلّ ما كان سبباً في الهزيمة والنكبة، والناس مشغولون عنها بالعمل الفدائيّ، سيقود البلاد العربية إلى هزائم ونكبات جديدة، ويعطي العدوّ المتربص فرصاً أخرى لألوان من التوسع والكسب لا سمح الله.
يجب علينا -كما أشرت في أول الكلام- أن ننظر إلى قضيتنا نظرة عميقة دقيقة شاملة، ترينا أنفسنا وعدونا في إطار عالمنا الذي نعيش فيه، وتُبصِّرنا بكل متطلبات المعركة، والسبل الموصلة إلى الأهداف، وتحفزنا إلى حشد الطاقات اللازمة، عقيديّة وفكريّة وعلميّة وسياسيّة واقتصاديّة وعسكريّة، على الصعيد الفلسطيني والعربي والإسلامي، وعلى صعيد العالم كلّه حيث نستطيع، وتمكّننا من أن نقوّم كل جهد من الجهود تقويماً صحيحاً، ونضعه حيث يجب أن يوضع، ونحدد له دوره الذي يقوم به.
إنّ طريقنا في مواجهة الصهيونيّة والاستعمار طريق شاقّ كثير المهالك والمزالق والضحايا، ويجب أن نقطعه إلى غاياتنا بكل عزم وتصميم، لا لأننا لا نعرفه ولا نتوقع ما سيلقانا فيه، بل رغم كل ما نعرف وما نتوقع وما أصابنا حتى الآن؛ (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ {172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران).
ألا ما أحوجنا إلى إيمان عظيم بالله عزَّ وجلَّ، يصغّر عندنا العقبات، ويهوّن علينا التضحيات، ويزيل من قلوبنا المخاوف، ويوطد ثقتنا بالفوز، ويفتح لنا طريق الجنّة أو النصر، ويرسي لنا الأساس المتين للمستقبل المنشود.
_________________________
من كتاب «في فلسطين آراء ومواقف».