ما من إنسان خلقه الله تعالى في هذه الحياة إلا ويسأل بين يدي الله عز وجل على ما فعل، فقد قال تعالى: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ) (الصافات: 24)، وأخرج البيهقي والبزار عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدْمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ، وَعَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أُنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ فِيهِ».
وحين يُسأل الناس بين يدي الله تعالى يجيبون بالخير إن كانوا قد فعلوه، وإلا فإن البعض يعترفون بذنوبهم وغيرهم يسكتون أو ينكرون؛ أما المعترفون فقد جاء وصفهم في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «إنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عليه كَنَفَهُ ويَسْتُرُهُ، فيَقولُ: أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فيَقولُ: نَعَمْ أيْ رَبِّ، حتَّى إذَا قَرَّرَهُ بذُنُوبِهِ، ورَأَى في نَفْسِهِ أنَّه هَلَكَ، قالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ في الدُّنْيَا، وأَنَا أغْفِرُهَا لكَ اليَومَ».
أما المنكرون فتأتي صحائف أعمالهم شاهدة بما فعلوا، قال تعالى: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف: 49)، ولم يجعل الله تعالى صحائف الأعمال هي الشاهد الوحيد على الخلق، وإنما جعل الزمان والمكان والجوارح يشهدون على الإنسان.
شهادة الزمان على الإنسان
إن الزمان يمر علينا يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، وهذه الأيام والأعوام تشهد لنا أو علينا أمام الله تعالى، فإن الله تعالى يقول: (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ {1} وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ {2} وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (البروج)؛ فالمشهود يوم عرفة والشاهد هو يوم الجمعة.
وقال الحسن البصري: ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة(1)، فهذه الدقائق والساعات التي تمر عليك تشهد أمام الله لنا أو علينا، تقول: يا رب أنعمت على عبدك بالأوقات فاغتنَمَها أو ضيعها، وهنا يأتينا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ منَ النَّاسِ الصِّحَّةُ والفراغُ»(2)؛ فعلينا أن نغتنم هذه الأوقات حتى تكون شاهدة لنا يوم القيامة، فعن عبدالله بن عباس أن رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لرجلٍ وهو يَعِظُه: «اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ، شبابَك قبل هَرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقَمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك»(3).
شهادة المكان على الإنسان
لقد أخبر القرآن الكريم أن الأرض تشهد على الناس بما يفعلون فوقها، وتأتي يوم القيامة متحدثة بكل أخبارها، حيث الله تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا {1} وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا {2} وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا {3} يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا {4} بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (الزلزلة)، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات ثم قال لأصحابه: «أتدرون ما أخبارها؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمه بما عمل على ظهرها، تقول: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها»(4).
فالمكان الذي تسجد فيه وتفعل الخير فيه يشهد لك أمام الله يوم القيامة، قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ) (يس: 12)، وقال عز وجل: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا) (النبأ: 29).
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن جابرٍ بن عبدالله قَالَ: خَلَتِ البِقَاعُ حَوْلَ المسْجِد، فَأَرادَ بَنُو سَلِمَةً أَنْ يْنتقلُوا قُرْبَ المَسْجِد، فَبَلَغَ ذلكَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ لَهُمْ: «بَلَغَني أَنَّكُمْ تُريدُونَ أَن تَنْتَقِلُوا قُرْبَ المَسْجِد؟»، قالوا: نعم يَا رَسولَ اللَّهِ قَدْ أَرَدنَا ذَلكَ، فقالَ: «يا بَنِي سَلمَةَ ديارَكُمْ تُكْتَبْ آثارُكُمْ، ديارَكُمْ تُكْتَبْ آثارُكُمْ»، فقالوا: مَا يَسُرُّنَا أَنَّا كُنَّا تَحَولْنَا؛ والمعنى الزموا دياركم وامشوا خطواتكم إلى المسجد فكلها مكتوبة في صحائف أعمالكم.
ومما يؤكد أن الأماكن تشهد لفاعل الخير عليها ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أن الحجر الأسود يشهد لمن استلمه بحق وصدق، حيث قال: «ليبعثَنَّ اللهُ الحجرَ يومَ القيامةِ ولهُ عينانِ يُبصرُ بهما ولسانٌ ينطقُ بهِ يشهدُ بهِ على من استلمَهُ بحقٍّ»(5)، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في شأن المؤذنين: «لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ المُؤَذِّنِ، جِنٌّ ولَا إنْسٌ ولَا شيءٌ، إلَّا شَهِدَ له يَومَ القِيَامَةِ».
شهادة الجوارح على الإنسان
أكد القرآن الكريم أن جوارح الإنسان تشهد عليه يوم القيامة، حيث قال عز وجل: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (يس: 65)، وقال تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النور: 24)، وقال عز وجل: (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ {21} وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ) (فصلت).
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كُنَّا عِنْدَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَضَحِكَ، فَقالَ: «هلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟»، قالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسولُهُ أَعْلَمُ، قالَ: «مِن مُخَاطَبَةِ العَبْدِ رَبَّهُ؛ يقولُ: يا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ؟ قالَ: يقولُ: بَلَى، قالَ: فيَقولُ: فإنِّي لا أُجِيزُ علَى نَفْسِي إلَّا شَاهِدًا مِنِّي، قالَ: فيَقولُ: كَفَى بنَفْسِكَ اليومَ عَلَيْكَ شَهِيدًا، وَبِالْكِرَامِ الكَاتِبِينَ شُهُودًا، قالَ: فيُخْتَمُ علَى فِيهِ، فيُقَالُ لأَرْكَانِهِ: انْطِقِي، قالَ: فَتَنْطِقُ بأَعْمَالِهِ، قالَ: ثُمَّ يُخَلَّى بيْنَهُ وبيْنَ الكَلَامِ، قالَ: فيَقولُ: بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا؛ فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ».
_______________________
(1) قيمة الزمن عند العلماء: عبدالفتاح أبو غدة، ص 123.
(2) رواه البخاري (6412).
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك (7846)، والبيهقي في شعب الإيمان (10248).
(4) رواه الترمذي بسند حسن، (3353).
(5) أخرجه الترمذي (961)، وابن ماجه (2944)، وأحمد (2643) واللفظ له.