يقدم القرآن منهجًا فريدًا في الإصلاح النفسي والاجتماعي، وذلك لمعرفته بحقيقة النفس وآفاتها وطرق علاجها، ووضعه قواعد وقوانين لسير المجتمع، ومقتضيات علاج مشكلاته عبر المسيرة الاجتماعية، وتضمن في ذلك قواعد السير الاجتماعي ومحاذيره وطرق العلاج للإشكالات التي يمكن أن تصادفه.
فالقرآن لا يناصب الفرد العداء من أجل المجتمع، ولا يعلي بالفرد ويطيح بالمجتمع، بل يرسم القرآن خارطة فريدة ينسجم فيها الفرد مع المجتمع، فتتفتح آفاق الفرد وقابلياته لأقصى ما يمكن أن يكون، وينتظم المجتمع بحدود وأحكام تحت شعار حق الناس الذي هو حق المجتمع الذي اعتبر في القانون القرآني «حق الله» ليس لأحد التنازل عنه أو التفريط فيه.
كما أن القرآن لم يلغ أشواق الفرد ورغباته ولم يدعه إلى رهبانية، بل أقر شهواته ورغباته، ولكن وضع لها منهجًا للإشباع، حتى لا يطغى الفرد، ولا يستهين بحقوق المجتمع (التي هي حق الله)، وكان مقصد القرآن في ذلك المنهج هو تحقيق للإنسان السوية النفسية والمادية في الإشباع كأحسن ما تكون، فأقر الزواج وشرعه وحفز إليه إشباعًا للشهوة الجنسية وتحقيقًا لحفظ النوع وبناء للمجتمع.
كما أقر القرآن حب التملك كغريزة وفطرة في الإنسان، لكنه اشترط في وجهها الآخر أن يكون الكسب من حلال والإنفاق في غير تبديد أو تقتير، وإعطاء حق الله أي حق الناس، كذلك لم ينه القرآن عن التمتع وعن الزينة في الحياة الدنيا، ولم يعتبر الدنيا شيئاً مدنسًاً، بل اعتبر أن الدنيا جزء من حقيقة الآخرة أي الدنيا الخالدة، وفي ذلك اعتبر القرآن أن عمل الإنسان في الدنيا واكتسابه وحركته عملًا مقدسًا للآخرة، طالما التزم منهج القرآن في النفع والإصلاح وتجنب الضرر الفردي والاجتماعي.
وهكذا لم يحرم القرآنُ الإنسانَ رغبةً أو شوقًا فرديًا، ولكن وضعه في إطار النفع الفردي والمجتمعي والإصلاح النفسي والمجتمعي.
لقد وضع القرآن الكريم قواعدًا للفرد والمجتمع أمام الجميع، بكل موضوعية لم يستثن أحدًا من الالتزام بها إلا في حالة الضعف وعدم المقدرة المادية أو البدنية، وفي ذلك مساواة لم تتحقق في ظل القوانين الوضعية المعاصرة التي وضعت من أجل التحايل عليها، هذه القواعد تمثل خارطة للقيم الاجتماعية الواضحة، التي لم يضعها فرد أو جماعة، ولم تنحز تلك القواعد إلى قوة أو سلطة أو شخص أو جماعة، ولكنها انحازت إلى كل الإنسان الضعيف قبل القوي، والفقير قبل الغني، والمرؤوس قبل الرئيس، والصغير قبل الكبير، والمرأة قبل الرجل.
لقد خسر المسلمون بإقالة القرآن ورفعه من حياتهم الاجتماعية والثقافية والتعليمية -بل خسر العالم المعاصر- عندما فشلوا في تقديم نموذج مجسد للقرآن في الحياة المعاصرة، يبين تفرد القرآن في إصلاح حركة المجتمع وحركة الثقافة ونهج التعليم وفلسفة البناء التربوي، وذلك في مقابل التمكين لمبدأ الصراع الغربي الدارويني في حركة المجتمع والفرد.
لقد خسر الإنسان المعاصر منهجًا تتكامل فيه الحياة (المادية والمعنوية)، منهجًا لم يكن الإنسان فيه بحاجة إلى تأجيج صراع بينهما، ولا توتر أو اضطراب في الاختيار، أو الانشداد بين طرفيهما، خسر الإنسان المعاصر منهجًا تتكامل فيه الفردية والجماعية، فلم يكن مضطرًا في المنهج القرآني أن يضحي بأحدهما لينجو أو يفوز الآخر، خسر هذا الإنسان منهجًا تتآلف فيه الحياة (الدنيا مع الآخرة)، فليس هناك حاجة في المنهج القرآني إلى إزاحة أحدهما ليعيش بعيدًا في الآخر.
خسر الإنسان المعاصر منهجًا قرآنيًا يندمج فيه الشهود مع الغيب بلا تنافر أو انقسام، ويتواءم فيه المطلق مع الواقعي بلا تضاد، وينسجم فيه المعياري مع المعيش من غير تناقض أو غضاضة عقلية أو وجدانية.
كان البديل لهذا الغياب للنموذج القرآني في المجال الثقافي والاجتماعي هو التمكين لمبدأ الصراع في الحياة الفردية والاجتماعية، الذي أسس له النموذج الغربي المعاصر سليل الداروينية الصهيونية، الذي تبعته انتشار الأمراض النفسية على مستوى الفرد، والصراعات الاجتماعية على مستوى المجتمع؛ صراع الطبقات، وصراع الأجيال، وصراع الثقافات وصدامها مما روج له صمويل هنتنجتون وتحققه الولايات المتحدة وحلفائها من الغرب في العالم المعاصر، فأضحى الصراع السمة الرئيسة للعالم المعاصر الذي غاب فيه نموذج مجسد للقرآن في أهله، ليحتذي به العالم.
تمكنت -للأسف الشديد- منظومة القيم الغربية من مفاصل المجتمع الحديث -والعالم الإسلامي جزء منه- حيث تغييب المقدسات والغائيات التي يمكن للأخلاق أن تستمد منها معيار صوابها وخطئها ومعايير الأحكام القيمية للسلوك الإنساني الراشد، فأصبحت الأمة في حالة من الارتهان إلى منظومة قيم اجتماعية وأخلاقية لا تعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم فقط، والقوانين الأخلاقية لا وجود لها إذ لا يوجد سوى المنفعة واللذة وتعظيم الإنتاج بهدف تعظيم الاستهلاك.
إن اعتبار الصراع قاعدة للنظام الاجتماعي وللتاريخ عمومًا يحمل في طياته بذور عقيدة التدمير الذاتي للمجتمعات التي تظل ترضخ تحت نيران الأفكار المتصارعة أو ما يعرف في تيار الحداثة بالثنائيات التي لا تنتهي؛ الدنيا والآخرة، والمادي والمعنوي، والفرد والمجتمع، والديني والمدني، والبيئة والوراثة، والدين والسياسة، وهكذا إلى ما لا نهاية من الثنائيات التي أوجدها مبدأ الصراع في الحياة الاجتماعية والإنسانية، الذي يستنزف طاقة الأفراد والمجتمعات والحضارة.
بينما يقوم المنهج القرآني على بُعد السماء في بناء القيم الاجتماعية، تحولت الأمة في ظل إبعاد القرآن إلى بناء سلم قيمها من خلال أصحاب الثروة والسلطة والأهواء، فالناس –كما يقول نيتشه- هم الذين أعطوا لأنفسهم كل خيرهم وشرهم، إنهم لم يتلقوا ذلك من قوة عليا ولا هبط إليهم من السماء، وإنما الحياة؛ حياتهم اليومية وحاجاتهم الفسيولوجية والاجتماعية هي التي تدفعهم إلى إضفاء قيم معينة على الأشياء، إذن فالقيم الأخلاقية ليست أبدية ولا مطلقة، وإنما هي نسبية تابعة للتغير الذي يلحق دوافعها البيولوجية والاجتماعية، ومن هذا المنطلق الوضعي المحض تنتشر أخلاق العصر(1)، وهذه خلاصة النموذج المادي للاجتماع الإنساني المعاصر الذي استبدلته الأمة بالقرآن.
____________________________
(1) محمد عابد الجابري: قضايا في الفكر المعاصر، ص48.