لم تكن دعوة الإسلام إلى تقريب المسافة بين القول والعمل إلى حدود المطابقة بينهما مجرد دعوة إلى قيمة خلقية ذات أثر كبير في إحداث التوازن النفسي للأفراد والمجتمعات، والارتقاء بمستوى فاعليتهم الذاتية، ومصداقيتهم العملية إلى أقصى غاية ممكنة؛ لكنها بالإضافة لذلك دعوة إلى فعل حضاري بالغ الأهمية تُبنى عليه مصائر الأمم، ومكانة كلمتها بين أمم الأرض.
لقد بلغ البيان القرآني في التنفير من عدم مطابقة القول العمل شأوًا بعيدًا إذ اعتبر ذلك من المقت الكبير أو من أكبر ما يمقته خالقنا الجليل، وناهيك بأمر يمقته المولى سبحانه سوءًا أو خطرًا قال الله تعالى: (كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف: 3).
ولمزيد من إظهار بشاعة ذلك المسلك، والتنفير منه لأقصى حدّ، كان تشبيه من يقترف ذلك الخُلق الذميم؛ أي التنافر والتباعد في سلوكه وحياته بين العلم والتطبيق، بين القول والعمل بأبشع وصفين تنفر الطباع السليمة من الاتصاف بهما عادة وبخاصة من أبناء الثقافة العربية، وهما الكلب والحمار.
قال الله تعالى: (مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ ) (الجمعة: 5)، وقال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) (الأعراف).
إنهما صورتان موحيتان تعمقان في نفس المؤمن أهمية أن يتبع علمه عملاً، وأن يتبع قوله فعلاً، وأن تكون المسافة بين هذا وذاك أضيق وأقصر ما يكون ليكون من الأسوياء الفائزين، وإلا كان من الأشقياء الخاسرين.
إن قيمة العلم -وإن كان هو في ذاته قيمة- تزداد بالعمل به، فالعمل بهذا العلم تأكيد لجدارة هذا العلم بالحياة والبقاء، وإهمال العمل بالعلم برهان جلي على انعدام التزام صاحبه به، بل دليل واقعي على عدم جدواه العملية، وإلا فلماذا تخلّى عنه صاحبه ولم يتحلّ به؟ فإهمال العمل بالعلم من قبل حامله هو أسوأ دعاية ضد هذا العلم، وضد أهله قاطبة، وهو تنفير للناس دونه أي تنفير.
ولقد صوّر لسان الوحي الصادق حالة هذا الصنف من البشر يوم القيامة تصويرًا مفزعًا؛ إذ صوّر ذلك العالم الذي لم يعمل بعلمه بصورة رجل اندلقت أقتابه -أي أحشاؤه الداخلية- فهو يجرجرها حيث راح، ويدور بها كما يدور الحمار بالرحى، ولعمر الحق إن الجزاء يناسب قبيح ما فعل تمامًا، فهو في الآخرة يعاني بسبب ما كان بداخله، لأنه لم يحسن الاستفادة والانتفاع بما كان يحمل داخل نفسه في الحياة الدنيا، والحقيقة كما أثرت في المقدمة إن للمسألة بُعدًا آخر لا على الصعيد الديني فحسب، بل على الصعيد الدنيوي البحت.
إن البشرية تشقى أو تسعد بمقدار الهوة التي تكون بين الوعود المعطاة من قادتها وما يتم إنفاذه على الأرض من تلك الوعود، والشعوب الراشدة تحسن معاقبة قادتها إذا كانوا من ذلك الصنف الذي يملأ الأجواء صخبًا وضجيجًا بوعود فارغة دون أن يكون لذلك مردود حقيقي على الأرض، وتختلف طرائق الشعوب في معاقبة هؤلاء سواء بثورة عارمة لا تبقى ولا تذر، أو بإسقاط حزب يجمع هؤلاء القادة في انتخابات ديمقراطية نزيهة لا تشوبها الشوائب.
وعلى صعيد آخر، أي الصعيد العلمي، نجد أن الفجوة بين النظرية وتطبيقها إذا ضاقت تصبح النظرية حقيقة ثابتة مؤكّدة لا مجرد وجهة نظر قابلة للردّ والمواجهة من شداة العلماء وبارزيهم.
وقد لاحظ المختصون بدراسة تاريخ العلم أن الفجوة بين فكرة الاختراع وتنفيذها الحقيقي في أرض الواقع آخذة في التناقص مع زيادة الرشد الإنساني، والتقدم العلمي، وامتلاك أدواته، فالمسافة بين ظهور فكرة الهاتف أو المصباح الكهربي أو القطار أو الطائرة، على سبيل المثال وتحقق تلك الأفكار على أرض الواقع، قد تفاوتت المدد الفاصلة بين الفكرة وتنفيذها تفاوتًا بعيدًا، وكانت تميل إلى الضيق صعدًا، بما يؤكّد أنّ قرب النظرية من التطبيق علامة صحّة ورشاد، وتقدّم على مراقي الكمال.
إنّ المسافة الزمنية بين الجيل الأول من الحواسيب والجيل الراهن الذي نتمتّع اليوم بإمكاناته ومزاياه، لا تكاد تزيد على عقد من الزمان أو عقدين، والأمر نفسه ينطبق على الهواتف النقالة، إذ يستطيع المرء أن يستوعب في مدة 5 سنوات من عمره أن ثمة تغييرات هائلة طرأت على تلك الآلة الصغيرة التي قربت المسافات أو كادت تلغيها على نحو ما، وهو مؤشر واضح على حجم ما بلغته البشرية من نضج على هذا الصعيد، إلا أنه نضج يقابله تخلف كبير على صعيد الممارسات الإنسانية حين يتعلق الأمر بحقوق الغير في الحياة الكريمة دون تسلط أو جهل.
وباعتقادي، إن تربية الأجيال الناشئة على هذه المعاني السامية من إيثار العمل، والإنجاز العملي على الأقوال والادعاءات لهو من أوجب الواجبات، ولقد خطَّ لنا القرآن السبيل وما علينا إلا أن نترسّم خطاه ونستضيء بهداه.