رغم مرور 9 أشهر من الحرب على غزة، فإن جهود الأمة لنصرتها ما زالت عاجزة عن وقف المجازر والتجويع والترويع الذي يتعرض له أهلها، ورغم طوفان الوعيد والتهديد والحديث عن النصرة القادمة؛ ما زالت السمة العامة لسلوك دول الأمة وجماعاتها وأفرادها العجز والخذلان والغثائية، بدليل استمرار هذا الكيان -الذي يشكل بقعة صغيرة وسط بحر من المسلمين- في جرائمه، بل ومبالغته فيها إلى حدود صادمة للعالم بأسره، وما كان ذلك ليكون لو كان يحسب حساباً لنصرة حقيقية تُغَيّر معادلات الأمن والاستقرار التي ينعم بها.
وهذا مما يدفع إلى التساؤل عن مكامن الخلل وعوائق النصرة، ويحفز على العمل الجاد والجريء لتجاوزها، باعتباره متطلباً ضرورياً لتحقيق فريضة النصرة، واستكمال مسيرة الجهاد والتحرير.
وفي مقدمة هذه العوائق يظهر تمييع مفهوم النصرة وتفريغه من مضمونه الحقيقي، فالنصرة في اللغة والشرع تعني الحماية ودفع الأذى والإعانة على العدو، وهي تقتضي بطبيعة الحال الشراكة في تحمل كلفة مواجهة المعتدي، ويصعب تصور نصرة يشترط صاحبها السلامة وعدم التضحية.
إلا أن التطبيق والخطاب الحالي يتركز على أشكال «ناعمة» لا تحمّل أصحابها كلفة النصرة، فترى الحديث يتمحور حول الدعاء وإظهار التضامن العاطفي واللفظي، والمقاطعة، والتبرع، والمظاهرات التي لا تحمل خطراً على أصحابها، وبالمقابل يفهم أنصار الاحتلال النصرة جيداً؛ فيمدّونه بالسلاح والمؤن، ويحمون حدود أرضه وبحره وسمائه، ولا يبالون كثيراً بصراخنا و«هاشتاجاتنا»، وهم بذلك يتفوقون على المسلمين في فهم وتطبيق هذا المفهوم، مما يديم علوّهم وغلبتهم.
وفي هذا السياق، يظهر دور «صنم الوطنية»، الذي تصيب لوثته قطاعاً ممن ينسبون أنفسهم إلى الالتزام بالإسلام، إذ ترى حسابات المصلحة والمفسدة لديهم مفصّلة على مقاس حدود الدولة التي يعيشون فيها أو ينتمون إليها، فتراهم يقدّمون درء مفسدة تعرض بعضهم لأذى السجن أو الضرب على درء مفسدة قتل عشرات الآلاف من إخوانهم وتجويع وتهجير الملايين منهم، في فهم محرّف للإسلام؛ يتغافل عن سبق الإصرار عن كل ما ورد في القرآن والسُّنة بشأن وحدة المسلمين وأنهم «يدٌ على من سواهم».
أما ثالث هذه العوائق؛ فهو تفشي فلسفة تقديم المصالح المادية العاجلة، حتى بين أبناء الحركات الإسلامية، إذ ينافس هذا المنطق بقوة لتشكيل القرار السياسي والتنظيمي على المستوى الفردي والجماعي فيها؛ مما يجعل أي دعوة للتضحية -خارج هذا المنطق- صرخة في واد في غالب الأحيان، وينبني على ذلك نقص إرادة النصرة؛ المؤسس لعجز الإدارة وتخاذلها، وهو ما يصح فيه قول الله عز وجل: (وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً) (التوبة: 46).
وبعد التلبّس بهذه الآفات يتقارب المتخاذلون، ويتحالفون ويتخادمون، صراحة أو ضمناً، سراً أو علناً، إذ تنشأ مصلحة مشتركة لهم في التنصل من كلفة الخذلان ومن سوء صورته وتبعاته السياسية والتنظيمية، مع عدم الاستعداد لدفع كلفة النصرة إيماناً واحتساباً.
وفي هذا السياق، ترى دولاً وجماعات لا تكفُّ عن إظهار التعاطف مع المطحونين في غزة، فيما يلتزم الجميع بسقوف الفعل التي تضعها الولايات المتحدة، ويداهن المتخاذلون بعضهم بعضاً، ويديمون منظومات مصالحهم الفردية والجماعية الضيقة بصفتها الأساس والحاكم للسلوك يدافعون عن عجزهم وخذلانهم ويحمون أسواره، مع تسويغه وتبريره وتجميله والحفاظ على الوعد الخالد بأن القادم أجمل، رغم مرور الأشهر والسنوات دون مجيء الأجمل الموعود! بل يتكرس الحال مع القديم الذي يعيد إنتاج نفسه من رماد كل فشل ليعيد سيرته الأولى، كرّة بعد كرّة، فيما لا يعدم جموعاً من المرتزقين والمغيبين ليهتفوا دائماً ويسيروا في الركاب أيًّا كانت الوجهة.
وإذا ضاقت الحال بهؤلاء وزادت عليهم اللائمة يحولونها إلى المجاهدين الذين لم يستشيروا شعبهم وجماعتهم قبل مبادرتهم إلى هذه الحرب، حتى يستعدوا لها! وكأن عقوداً من الاحتلال والحصار والحروب لم تكن كافية للإعداد!
وختاماً، فإن المَخرج من حفرة الخذلان يقوم على معرفة هذه العوائق؛ والعمل على مضادّتها؛ من خلال ضبط مفهوم النصرة، وعدم الاكتفاء بما لا يُلحق بأصحابه كلفة أو أذى، وجعل مفهوم الوطنية تابعاً للدين لا حاكماً عليه، وتقديم الآخرة على الأولى، والعمل على تفكيك تحالف المتخاذلين، من خلال كشف واقعه، وتحديد المسارات العملية اللازمة للنصرة، وعدم الركون إلى من أدمنوا الخذلان وارتهنوا لمصالحهم الصغيرة ليقودوا أي نصرة أو تغيير.
ولله الأمر من قبل ومن بعد.