تقوم الروابط والعلاقات العامة في الأمة الإسلامية على وحدة الدين والعقيدة، وعلى وَحدة النُّظم الاجتماعية العادلة والعبادات الجامعة والمبادئ الخُلقية الفاضلة؛ ذلك أن الاجتماع في مكان واحد مع اختلاف العناصر أو تناقضها يكوّن اجتماعاً يحمل في طياته عوامل انحلاله، أو عوامل الوهن والضعف، خاصة إذا انعدمت أو تراجعتْ هيمنةُ المنازع الروحية التي من شأنها تهذيب التصرفات والمسالك غير اللائقة بإنسانية الإنسان.
لذلك كان الاجتماع باسم الإسلام وفي كنف تعاليمه السمحة لا يقوم على أساسٍ من المغالبة أو المنازعة، بل على أساس قاعدة الأُخوة العامة بين المسلمين، والمودّة والرحمة بين أفرادهم وجماعاتهم، والتعاون الكامل فيما بينهم، وكذا التعاون مع غيرهم من الدول والأنظمة والمجتمعات التي لا تناصبهم العداء، ولا تحكم بروح العصبية والعنصرية والاستعلاء العرقي والإثني والقومي ونحوه.
كما أن الإنسان بطبيعته يشعر أنه كائن اجتماعي ليس بمقدوره أن يعيش بمفرده منعزلاً عن الناس، لا سيما أبناء مجتمعه، فهو بحاجة ماسة إليهم، يتحاور معهم ويتبادل مع مجموعهم المصالح والتطلعات والتشوّفات والآمال المشتركة.
ولا ريب أن كلّ إنسان عاقل يشعر بأنه لو لم يتحمّل مسؤوليته تجاه الآخرين، فإنه لا يجوز له بالمقابل أن ينتظر من الآخرين أن يتحمّلوا بالنسبة له أيّ مسؤولية، فالإنسان الذي يتنكّر لالتزاماته الأخلاقية والقيمية إزاء الآخرين هو إنسان يعزل نفسه عن المشاركة الاجتماعية والإنسانية بمحض اختياره غير الواعي.
ولذلك يبدو الأمر موغلاً في الغرابة والتناقض إذا ما بادر المرء إلى التنكّر لهذه المسؤولية والهروب من مقتضياتها وتداعياتها العامة، ويريد في الآن نفسه أن يتضامن الآخرون معه عندما يكون بحاجة إلى تضامن الآخرين معه، وإلى وقوفهم إلى جانبه في وضع من الأوضاع أو بإزاء ضرورة من الضرورات مما يطرأ أحياناً في واقع الحياة وابتلاءاتها المطّردة؛ ذلك أن أفراد المجتمع -كلّ من موقعه- ينبغي أن يدركوا حقيقة نواة الوَحدة العضوية التي تجمع مجتمعهم وتعضّد شبكة علاقاتهم، وتمنح وجودهم الاجتماعي قوةً وشعوراً بروح المسؤولية المتكاملة الإيجابية المتضامنة.
إن هذا المبدأ يبيّن لنا جلياً أن الإسلام شديد الحرص في تعاليمه ونصوصه ومبادئه وقيمه ونُظمه العامة، على دعم مقوّمات المجتمع المسلم من الداخل، ومنحها قوةً وتماسكاً ومنعةً، في سبيل حفظ مقصد أُخوّة المؤمنين وصيانة ركيزة وَحدتهم العقدية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، من كلّ ما من شأنه أن يسيء إليها أو يُضعفها، ومن كلّ ما من شأنه أن يوهن عناصر القوة والصلابة والمتانة في مقوّمات معمار البناء الذاتي للمجتمع المسلم.
هذه المعاني التأسيسية الكبيرة كانت -دون ريب- حاضرةً وجليّةً في رسالة الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى يثرب، التي سعدتْ بقدوم صاحب الرسالة العظمى، محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك كانت اللبنة الأولى في بناء وَحدة المجتمع المسلم من الداخل تتمثل في بناء مسجد جامع، وهو ما تحقق فعلاً في تشييد مسجد قباء، حيث كان هذا المسجد ملاذاً عطراً ندياً للنهل من معين النبوّة الرائق، وفهم مقتضيات اكتمال الرسالة الخاتمة، وما تعنيه من تضحيات جسام، تنتظر مجتمع المهاجرين والأنصار، الذين صهرتهم تعاليم الإسلام وعقائده في معمار واحد وكيان واحد ومصير واحد.
ولما كانت اللبنات التأسيسية الأولى سليمة، فقد نجح المجتمع المسلم في يثرب، بإشراف وعناية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صحابته الكرام من بعده، في توطيد عرى الإسلام وإبلاغه نقياً إلى البشر جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، وتحقق وعدُ الله لهم في قوله جلّ شأنه: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران: 195).