لا تبدو الأرض مجرد ساحة للصراع بين الاحتلال الصهيوني الغاشم وأصحاب الحق؛ أي لا تبدو طرفًا محايدًا، وإنما هي طرف أساس في الصراع الذي يجري عليها وبسببها؛ ولذا، فالأرض مستهدفة من الاحتلال كما أن أصحاب الأرض مستهدفون، ويجري عليها من الاعتداء والتنكيل ما يجري على الإنسان الفلسطيني المتمسك بحقوقه وأرضه.
ولا يكاد يمر يوم دون أن يمارس الاحتلال بطشه على البيئة وتنكيله بالأرض؛ ويتبدَّى ذلك في عدة مظاهر؛ أهمها: تجريف الشوارع، وحرق المزارع، وهدم الآبار، وتخريب البنية التحتية بكافة مظاهرها.
إيجاد بيئة غير صالحة للحياة
في تقرير مهم، وبمناسبة اليوم العالمي للبيئة (5 يونيو)، رصد الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، عددًا من مظاهر اعتداء الكيان الصهيوني على البيئة الفلسطينية، تحت عنوان «عدوان الاحتلال الإسرائيلي خلق بيئة غير صالحة للقطاع في غزة».
وأشار التقرير إلى أنه وبينما كان العالم يحتفل بـ«يوم البيئة العالمي» لهذا العام، فإن فلسطين تواجه استنزافًا لمقدراتها البشرية والطبيعية بسبب العدوان المستمر منذ أكثر من 7 عقود، وتجلَّت تداعيات هذه الغطرسة بالعدوان «الإسرائيلي» الهمجي الأخير منذ السابع من أكتوبر، حيث التدمير العشوائي للكل الفلسطيني، واستخدام كافة أنواع الأسلحة بغية تدمير كافة مناحي الحياة والممتلكات بما فيها المكونات البيئية؛ إذ إن إلقاء آلاف الأطنان من المواد المتفجرة والسامة يسبب تلوثًا كبيرًا للتربة والمياه والهواء؛ ما يؤثر بشكل سلبي على النظم الإيكولوجية والصحة العامة، ويعرضها للتهديد.
إضافة إلى ذلك، فإن تدمير المرافق البيئية من محطات معالجة المياه العادمة ومحطات تحلية المياه يُعيق قدرة المجتمع على الصمود وعلى إدارة الموارد المائية؛ مما يُفاقم من خطر الجفاف ونقص المياه النقية والصالحة للشرب، ويهدد الأمن الغذائي.
بجانب هذا، أشار التقرير إلى أن حرق الأراضي الزراعية، وتدفق المياه العادمة القادمة من المستعمرات «الإسرائيلية»، وتهريب النفايات الخطرة للأراضي الفلسطينية؛ يُلحق ضررًا وتلوثًا ودمارًا هائلاً بالقطاع الزراعي، ويُعيق الإنتاج الزراعي، ويصعّب من تأمين الغذاء والموارد الزراعية الأساسية.
الإبادة بالتعطيش
وفيما يتعلق بمشكلة المياه، أوضح الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أن فلسطين تعتمد بشكل أساسي على المياه المستخرجة من المصادر الجوفية والسطحية، وتبلغ نسبتها 75.7% من مجمل المياه المتاحة، ويعود السبب الرئيس في ضعف استخدام المياه السطحية إلى سيطرة الاحتلال «الإسرائيلي» على مياه نهر الأردن.
لكن وبسبب العدوان، كما يبين الجهاز المركزي، فإن إجمالي المياه المتوفرة في القطاع يقدر بنحو 10- 20% من مجمل المياه المتاحة قبل العدوان، وهذه الكمية غير ثابتة وتخضع لتوفر الوقود، حيث تم تدمير 350كم من أصل 700كم من شبكات المياه؛ أي حوالي 50%، و9 خزانات مياه من أصل 10 خزانات رئيسة؛ مما ترك السكان غير قادرين على الحصول على المياه النظيفة، حيث تعمل محطتا تحلية مياه بقدرة لا تتجاوز الـ20% من قدرتهما التشغيلية، مما يفاقم خطورة الوضع؛ كما أن حوالي 83% من آبار المياه الجوفية في قطاع غزة متوقفة عن العمل حاليًا.
الانتقام بالتصحر
أيضًا يُعد التصحر من أخطر المشكلات التي تتعرض لها البيئة الفلسطينية، بسبب الممارسات العدوانية التي يقوم بها الاحتلال بحق الأرض والمياه، والمتمثلة بحرق وتجريف الأراضي الزراعية.
ويشير التقرير إلى أنه وبناءً على الصور الجوية التي من خلالها تم إجراء تقييم للأضرار الزراعية الناتجة عن العدوان على القطاع، والمتمثلة في تجريف الأراضي ونشاط المركبات الثقيلة، إضافة إلى القصف المستمر حتى تاريخ أبريل الماضي، فقد أشارت البيانات إلى أن 46% من المساحات الزراعية في قطاع غزة قد تضررت، وكان الضرر المباشر والأكبر في محافظات خان يونس؛ حيث إن الضرر قد طال 51% من المساحات الزراعية فيها، فيما بلغ الضرر حوالي 48% من الأراضي الزراعية في محافظة شمال غزة.
ولا شك أن هذا له تأثيره البالغ على البيئة نفسها، من حيث كفاءتها الإنتاجية بعد ذلك، إضافة إلى تأثيره على ما يتوافر للقطاع من محاصيل، خاصة إذا كانت الاحتلال يشدد قبضته على المعابر ويتعسف في إدخال المساعدات، ضمن سياسته «الضغط بالتجويع».
التهجير بالتدمير
وفي هذا العدوان الغاشم غير المسبوق، لم تكن البيئة في قطاع غزة وحده هي ما أصابها الضرر البالغ؛ بل كان ذلك سياسة ثابتة للاحتلال في مناطق أخرى مثل جنين؛ سعيًا من الاحتلال لإخماد المقاومة هناك.
فخلال اقتحاماته لمخيم جنين، التي تكثفت بعد السابع من أكتوبر، تعمد الاحتلال إلى تدمير بنيته التحتية، وتجريف شوارعه وإتلاف شبكات المياه والكهرباء، وهدم البيوت بالجرافات، وأحيانًا قصفها بالقذائف المحمولة على الكتف أو بالطائرات المسيرة، للقضاء على مخيم جنين ومخيمات الضفة، بحسب الأهالي (الجزيرة نت، 15 مايو).
وقال ابن المخيم مهدي تركمان: إن كل اقتحام يكون أكثر تدميرًا من سابقه، لدفع الأهالي للهجرة، مضيفًا: أنا بالتأكيد أسعى لحياة مستقرة وهو ما لا نجده اليوم بالمخيمات التي تُدمَّر بشكل مستمر، يحاولون زرع هذه الفكرة لدينا، لكن لن نعيد نكبة 48 مرة أخرى ولو قتلونا كلنا هنا في بيوتنا.
التدمير بتعطيل الأدوات
سياسة أخرى يتبعها الاحتلال، وهي تدمير القطاع والانتقام من سكانه، بتعطيل الأدوات اللازمة؛ بحيث تتفاقم المشكلات في كافة المناحي، ولا يجد أفراد الخدمة المدنية أي أدوات يمكن أن تسعفهم في ترميم ما خلفه الاحتلال من آثار تتفاقم على المستوى الصحي والبيئي.
وقد أشار «المركز الفلسطيني للإعلام» (24 فبراير) إلى أن تعطيل آليات البلديات والخدمة المدنية يعطل كل الخدمات المعنية بإصلاح وتنقية البيئة في قطاع غزة، فيما عمد الاحتلال من جهة أخرى إلى تدمير مرافق الصرف الصحي، ما أحدث كارثة صحية وبيئية خطيرة نتيجة تسرب مياه الصرف الصحي للشوارع وشاطئ البحر، وبرك تجميع مياه الأمطار.
وذكر المركز أن الاحتلال ومنذ بدء العدوان، دمر نحو 90 آلية تابعة لبلدية غزة من مختلف الأحجام؛ وتشمل آليات جمع وترحيل النفايات، وآليات معالجة الصرف الصحي، وآليات ثقيلة للنقل وورشة الصيانة، وجرافات، وسيارات خاصة بالأعمال الإدارية ولجنة الطوارئ، وآليات خزان نقل المياه، ما أدى لتكدس نحو 70 ألف طن من النفايات في الشوارع وقرب مراكز الإيواء.
وأشارت بلدية غزة إلى أن الأضرار والتدمير شمل أيضًا تدمير نحو 30 ألف متر من شبكات الصرف الصحي، و5 آلاف متر من شبكات تصريف مياه الأمطار؛ ما ينذر بوقوع كارثة صحية بانتشار الأمراض والعدوى الناتجة عن هذا التلوث.
إذن، لا تقتصر جرائم الاحتلال على الإنسان الفلسطيني الذي يمارس حقه المشروع في الدفاع عن حقوقه، وإنما تشمل أيضًا الاعتداء على البيئة الفلسطينية بجميع مظاهرها، من الأرض والشجر والمباني والمياه والطاقة وغير ذلك؛ سعيًا من الاحتلال للضغط على المقاومة، والانتقام من حاضنتها الشعبية، بل والانتقام من الأرض نفسها التي لم تعد مجرد ساحة للصراع، وإنما هي طرف أصيل تنحاز لأبنائها وتقاوم المعتدين!