«بناء على طلب من الحكومة السودانية، وتفويض من مجلس الأمن»، بهذه العبارة المفتاحية استمد فولكر بيرتس، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان، شرعيته بحط رحاله في السودان؛ وتدخله اللامحدود في سيادته، فكانت هذه العبارة جواباً عن سؤال اتهام من بعض الجهات وخاصة القوى الوطنية بدخوله في الشأن السيادي للسودان.
بتفكيك وتحليل عبارة بيرتس تنجلي لنا الكثير من الحقائق التي تجيب عن النصف الأول من سؤال عنوان المقال.
ومن المهم للغاية أن ندرك أن العنوان لا يتكلم عن سؤال: من أطلق الرصاصة الأولى التي أشعلت الحرب؟ والمعنى بها من قام بالتنفيذ، التي أطلقها البعض لشغل الرأي العام بسؤال غير مفيد، بل يذهب إلى أبعد من ذلك بكثير؛ إذ يبحث عن الفاعلين الحقيقين في التخطيط وترتيب اللاعبين.
هذه المقالة بمثابة تسليط الضوء على الدور الخارجي المشبوه لتأجيج الحرب في السودان واستمرارها، وفتح آفاق لزوايا نظر وقراءة الأحداث بطريقة موضوعية بعيداً عن حجاب آنية الحدث.
إن أي أحداث جسام تحل بأمة سيما الحروب عند سبر أغوارها، نلحظ فيها تدخل الخارج الناتج عن ضعف وتشظي اللحمة الداخلية المتمثلة في بعض الداخل السياسي المؤثر في الأحداث الذي تسنم قيادة البلد على حين غفلة من الدهر، الذي يؤدي دور الأداة المنفذة كرقع الشطرنج يحركها اللاعب كيفما يشاء ويريد.
سردية حرب السودان التي اندلعت، في 15 أبريل 2023م، التي لا تزال رحاها دائرة، بدأت وبدأ التخطيط لها في نهاية يناير 2020م، بحدثين على غاية من الأهمية:
الأول: لقاء قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان برئيس الوزراء «الإسرائيلي» خفية بدولة أوغندا المجاورة للسودان، وبرز بعد كشفه من قنوات «إسرائيلية».
الثاني: إرسال رئيس الوزراء رسالة سراً كتبها السفير البريطاني حينها للأمم المتحدة يطلب فيه بعثة أممية تحت «البند السادس».
الحرب بدأ التخطيط لها في يناير 2020م بلقاء البرهان مع نتنياهو ورسالة حمدوك السرية إلى الأمم المتحدة
لكلا الحدثين أثر بالغ لما تلاهما من أحداث استمرت من عام 2020م تمهد وتؤسس لاندلاع الحرب حتى اندلعت صبيحة السبت 15 أبريل 2023م، متزامنة مع خواتيم شهر رمضان.
حيال هذا الحدث الثاني، يمكن النظر بوضوح إلى عبارة بيرتس بتفكيك وتحليل شقها الأول «بناء على طلب السودان» يمكننا أن نخرج بـ3 ملاحظات جوهرية:
الأولى: ذلك التعتيم الذي رافق الخطاب، فرئيس الوزراء عبدالله حمدوك قد بعث بالخطاب في 26 يناير 2020م، وتم كشفه للرأي بعد أسبوعين.
الثانية: انفراد حمدوك دون مجلس الوزراء، والسيادي ومكونات المجتمع السياسية والمدنية بقرار إرسال خطاب للأمم المتحدة، لاغياً أي اعتبار بشأن مناقشة جدوى الخطوة، وأسبابها وتأثيرها على مستقبل البلاد، ولتغطية هذه الخيانة العظمى عمد فيصل محمد صالح، وزير الإعلام حينها، بتبرير موقف حمدوك: بأن الحكومة السودانية قبلت لتكون التدخلات عبر «البند السادس»، مبرراً ذلك بأن «البند السادس» يكون وفق إرادة الحكومة السودانية؛ ما يعني عدم التدخل في السيادة الوطنية، وفي حقيقة الأمر فإن ما ذهب إليه الوزير ليس صحيحاً، فإن ما حدث خلاف ذلك.
الثالثة: وهي الأهم؛ حيث تبرز التدخل الخارجي السافر، فقد اتضح أن السفير البريطاني عرفان صديق هو من قام بصياغة هذا الخطاب؛ واتضح سر هذا التدخل، فيما بعد بأن قدمت كل من بريطانيا بـ«صياغة الخطاب عبر حمدوك»، وألمانيا بـ«اختيار بيرتس الألماني لتنفيذ مهمة إشعال الحرب»، مقترح مشروع قرار لـ«يونتامس».
كانت هذه الخطوة من أداة الداخل عبر رئيس الوزراء حمدوك المسوغ النظري للخطوة التنفيذية التالية، وهي الجملة الثانية من كلام بيرتس «وتفويض مجلس الأمن»؛ حيث اعتمد مجلس الأمن، في يونيو 2020، قراره رقم (2524) بتشكيل بعثة أممية لدعم الانتقال في السودان تحت «البند السادس»، وأشارت الفقرة الأولى من القرار إلى أن الغرض من القرار هو «إنشاء بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة في الفترة الانتقالية (يونيتامس)».
خطوات إشعال الحرب
لفهم خطوات إشعال الحرب في السودان يمكن تلخيصها في:
1- يعد اختيار بيرتس ذي السمعة السيئة في كل من سورية والعراق وتعيينه رئيساً للبعثة الأممية في السودان، في يناير 2021م، الخطوة الأولى، ولفهم ذلك، تم إقحام هيكلة الجيش في الاتفاق الإطاري من قبل اللجنة الرباعية برعاية بيرتس، وهو مدرك لذلك، حيث قال بعد اندلاع الحرب، في مقابلة مع مجلة «دير شبيغل»: «إن سبب تدهور الوضع بين الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان، و«قوات الدعم السريع»، كان التوافق على شكل هيكل القيادة المشتركة وكيفية دمج القوات المسلحة و«الدعم السريع» في جسم واحد في المدى المتوسط».
2- تدخله في شأن سيادي بأن خطوات البرهان تعد استيلاء العسكر على السلطة، بغض النظر عن التوصيف، يعد ذلك تدخلاً ليس له أي مبرر ومسوغ، في أكتوبر 2021م.
3- استدعته «الخارجية» السودانية احتجاجاً على تصريحاته في تدخله بشؤون داخلية بالسودان، في يونيو 2022م.
4- تلتها مظاهرات جماهيرية حاشدة قادها التيار الإسلامي والوطني بطلب استبعاده من السودان، تبرز أن ما يقوم به إشعال حرب أهلية، في نهاية يونيو 2022م، وكانت الرؤية ثاقبة.
5- بعد اندلاع الحرب بشهر، في نهاية مايو 2023م، تقدم البرهان يطلب فيه استبدال مبعوث آخر به، لكن كانت هذه الخطوة بعد فوات الأوان؛ إذ بعد أداء مهمته من إشعال الحرب لم يبقَ داعٍ من وجوده أو عدمه، فقدم استقالته غير مأسوف عليه، بعد أدائه لمهمته بنجاح، وتم إنهاء مهمة «يونتامس» بالقرار (2715)، حيث وافقت الدول الـ14 على ذلك، فيما تحفظت روسيا.
اختيار بيرتس ذي السمعة السيئة بسورية والعراق رئيساً للبعثة الأممية بالسودان خطوة كبرى بإشعال الحرب
بالعودة للحدث الأول وهو لقاء رئيس مجلس السيادة البرهان برئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، في مطلع فبراير 2020م، في عنتيبي؛ لأجل تطبيع العلاقات مع «إسرائيل»، وهذا يمثل الهدف المعلن.
بينما الهدف الخفي الذي نسعى لتحليله بطرح سؤال التوقيت المرتبط بخطاب حمدوك (مكون مدني)، بينما التفاوض من قبل «إسرائيل» مع المكون العسكري، وكأن الأمر مرتب بذكاء وحنكة سياسية، لا بد يبدو لأول وهلة ارتباطهما.
وعملياً تم شغل الرأي العام تارة بخطاب حمدوك السري للأمم المتحدة، وأخرى بلقاء البرهان السري بنتنياهو، فمضا الأمران بالاستغراق في التفاصيل، وعدم الإجابة عن هاتين الخطوتين فترتب عليهما ما بعدهما.
ما تبع هذه الخطوة من زيارة الوفد «الإسرائيلي» الذي زار السودان للتصنيع الحربي! والوفد الذي زار «إسرائيل» من «الدعم السريع» بقيادة عبدالرحيم دقلو، القائد الثاني في «قوات الدعم السريع»، وموقف «إسرائيل» بعد اندلاع الحرب بأنها طرف يمكن أن يحل الأزمة بسبب قربها من الطرفين، مؤشرات تحتاج التحليل العميق.