ظل السودان يعاني من حالة عدم الثقة والتنازع حول السلطة بدوافع ليست كلها خارجية، وإنما كان للأحزاب السياسية الدور الأكبر في ذلك، إضافة للتنازع الإثني والقبلي في بلد متعدد الثقافات مترامي الأطراف جعله ذا بنية سياسية هشة لم تستطع الصمود كثيراً في وجه المؤثرات الإقليمية والدولية التي أثر فيها الوضع الاقتصادي المتردي، وغياب الدور الفاعل للهيئات والمنظمات العربية والأفريقية.
فالسودان يتشارك حدوداً مفتوحة مع 6 دول، منها اثنتان عربيتان، وتعرضت البلاد لنحو 20 انقلاباً عسكرياً نجح منها 7 محاولات، محتلة بذلك المرتبة الأولى أفريقياً، والثانية عالمياً، وقد كان للأحزاب اليسارية ذات التوجه العلماني النصيب الأكبر في تلك المحاولات بسبب رغبتها في السلطة، برغم تعارض مبادئها مع الثقافة الغالبة للمواطنين وتوجهاتهم.
مليشيا «الجنجويد»
لا أحد يستطيع الجزم بتاريخ ظهور مليشيا «الجنجويد»، ولكن تعاونها مع الأحزاب بدأ في فترة الديمقراطية الثانية قبل حكومة عمر البشير، حيث لجأ حزب «الأمة» لعقد تحالفات مع عدة واجهات دارفورية في تلك الحقبة، وبحسب التاريخ القريب، فقد استعان الرئيس المخلوع البشير بالمليشيا لمواجهة التمرد في إقليم دارفور، وبرز حميدتي كقائد للمليشيا التي تتكون من شباب من عدة قبائل عربية ذات امتداد أفريقي رعوي ليس لهم حظ تعليمي ولا تدريب عسكري نظامي، وإنما ينتهجون أسلوب الفزع؛ وهو أن تنصر ابن قبيلتك ظالماً أو مظلوماً؛ مما أغرى الكثيرين منهم بالانضمام للمليشيا.
برز الخطر الأكبر عندما أصبحت «الجنجويد» ظهيراً عسكرياً بالساحة السودانية بعد الثورة على البشير
وبرز الخطر الأكبر عندما أصبحت المليشيا ظهيراً عسكرياً قوياً في الساحة السودانية بعد الثورة على البشير، فلجأت أحزاب قوى الحرية والتغيير (قحت) للتحالف معها لمواجهة الجيش الوطني النظامي، فتم استدعاء حميدتي من دارفور ليدخل بقواته إلى الخرطوم متمدداً في كل فراغ أحدثه التغيير الثوري ضد البشير، مستفيداً من علاقاته الدولية التي تعاظمت بعد مشاركة قواته في اليمن ووضع يده على موارد اقتصادية عملاقة كجبل الذهب عامر في دارفور.
وأصبحت «قحت» الذراع السياسية للمليشيا، وذلك بالتوقيع على الوثيقة الدستورية في مناصفة مع الجيش بعد التغيير، وجاءت بحكومة من المدنيين باعتبارهم ممثلاً وحيداً لقوى الثورة، وقامت المليشيا بفض اعتصام المتظاهرين الذين عارضوا الوثيقة، وتم في إثر ذلك تنصيب حمدوك رئيساً للوزراء، كما تم تنصيب حميدتي رئيساً للجنة الاقتصادية لتلك الحكومة الوليدة؛ فتضخم نفوذه في ظل غياب للمؤسسة العسكرية، وتضييق على الشرفاء والوطنيين من منسوبي الأجهزة النظامية والعسكرية، وتسريح للكتلة الصلبة منهم؛ مما خلق هشاشة أمنية وضياع لأدنى مظاهر الدولة والنظام، فكان الانقضاض الحتمي للمليشيا على الجيش الوطني في أبريل 2023م بهدف تنصيب حميدتي حاكماً للبلاد، واعتبار المليشيا بديلاً للجيش الوطني بعد القضاء على قيادته والانتصار الميداني على قواته.
لم تستفد أحزاب قوى الحرية والتغيير من الحكمة التي تقول: «عدو عاقل خير من صديق جاهل»، فاختاروا التحالف مع حميدتي الذي ضاعف قواته بالفزع القبلي الذي لا يعترف بالحدود السياسية للدول، فجاؤوا من كل دول غرب أفريقيا في محاولة لفرض استعمار استيطاني بكل أدوات البطش والتنكيل بسكان الولايات السودانية؛ قتلاً ونهباً واغتصاباً، وكانت «قحت» تشكل لهم الغطاء السياسي والإعلامي في ظل غياب متعمد للإعلام العربي والدولي الذي وقف مسانداً للتغيير في السودان.
وأطلقت المليشيا سراح نزلاء السجون المحكومين في قضايا قتل ومخدرات وإرهاب لتستعين بهم وبالمرتزقة من دول الجوار في حربها الشاملة على السودان؛ فتم احتلال المنازل ونهب الممتلكات وقتل المواطنين العزل بعد التنكيل بهم واغتصاب حرائرهم في ظل غياب تام للإعلام المحلي والعالمي، واستهداف للصحفيين والمراسلين؛ فأصبحت بحق من أبشع الحروب دموية وهمجية في العصر الحديث.
قيادة الجيش
اختارت قيادة الجيش السوداني المواجهة وعدم تسليم البلاد للاحتلال، وتدافع المواطنون من كل أنحاء السودان مستنفرين مقاتلين إلى جانب الجيش، كما شاركت حركات الكفاح المسلح التي وقَّعت مع الجيش اتفاقية سلام في جوبا بعد التغيير بقواتها في الحرب على المليشيا، بالإضافة إلى منسوبي جهاز المخابرات العامة الذين تم تسريحهم سابقاً، توحدت كل هذه القوى دعماً للجيش ورفضاً لمشروع المليشيا المدعوم سياسياً بـ«قحت» (غيرت اسمها إلى «تقدم» بقيادة حمدوك، رئيس الوزراء المستقيل) ومدعوم دولياً وإقليمياً ببعض دول الجوار والأشقاء الذين راهنوا على المليشيا فخسر رهانهم.
انقضاض «الدعم السريع» على الجيش كان لتنصيب حميدتي حاكماً واعتبار المليشيا بديلاً للجيش الوطني
وقد توجت هذه الوحدة الوطنية بإعلان المقاومة الشعبية والحرب الشاملة ضد الغزو الجنجويدي في ظل عزلة دولية فرضتها الدول الداعمة للتغيير في السودان؛ مما اضطر القيادة السودانية للاتجاه نحو المعسكر الشرقي لكسر هذه العزلة وتثبيت أركان الانتصار.
المبادرات التي تقدمت بها بعض الدول والمنظمات منذ بداية الحرب كانت في مجملها معترِفة بالمليشيا كطرف أصيل في النزاع، دون توجيه أي إدانة أو تجريم لحربها على المواطنين والأعيان المدنية والاغتصاب والتعذيب والنهب والسلب، وربما هدف بعضها لتنسيق مواقف المليشيا على أرض المعركة بتضخيم مواقع سيطرتها إعلامياً، ومحاولة ترتيب الجانب السياسي لمجموعة حمدوك تمهيداً لمحاولة الإعلان عن حكومة في مناطق سيطرة المليشيا، ولكن اختفاء القيادات العسكرية للمليشيا من الميدان، وعدم توافق القوى المدنية الداعمة للمليشيا أفشل هذا المخطط.
وعلى صعيد آخر، فإن مؤتمر جدة لم يقدم آلية واضحة لتنفيذ مخرجاته على الجانب الإنساني، بإلزام المليشيا بالخروج من المنازل وعدم التعرض للمدنيين، ذلك أن طبيعة تكوين المليشيا كعصابات سلب ونهب وتقتيل منع من إمكانية التوصل لاتفاق ملزم وأخلاقي معها، وهي تستبيح القرى والمدن في أبشع صورة للجريمة المنظمة في التاريخ المعاصر، مستفيدة من إمكانات التواصل الشبكي في بث صور الإرهاب والتقتيل والاغتصاب.
مؤتمر القاهرة
وفي مطلع يوليو 2024م، استطاعت مصر تنظيم مؤتمر القاهرة الذي جمع الفرقاء السياسيين الداعمين للمليشيا من جهة، والداعمين للجيش من جهة أخرى، هذا المؤتمر الذي لم يتم التوافق والتوقيع على مخرجاته ولا اعتماد مخاطبات وكلمات للوفود المشاركة فيه، كان من ثمراته أن أرسلت مصر رسائل واضحة للمجتمع الدولي:
أولاً: عدم اعترافها بالمليشيا التي سبق أن أسرت الطيارين المصريين في مطار مروي قبيل الحرب بساعات.
ثانياً: إن مجموعة حمدوك لا تملك تفويضاً شرعياً وحيداً للمدنيين والسياسيين في السودان، وإنما هنالك مكونات أخرى مساندة للجيش.
ثالثاً: اعترافها بشرعية الجيش السوداني ممثلاً لسيادة الدولة.
رابعاً: رفضها للتدخلات الأجنبية في الحرب، وأن الحل يجب أن يكون سودانياً مستقلاً.
قيادة الجيش اختارت المواجهة وعدم تسليم البلاد للاحتلال وتدافع المواطنون مستنفرين مقاتلين إلى جانبها
وبرغم تواضع مخرجات مؤتمر القاهرة وعدم مخاطبته للحكومة السودانية بالمشاركة، فإنه أعطى مؤشرات أوضحت تفوق الجيش النظامي على المليشيا، فما هي إلا ساعات وبدأ مطار بورتسودان باستقبال الوفود الدبلوماسية الرفيعة، وسارعت إثيوبيا لتدارك موقفها من الحرب بعد أن أدركت خسرانها للرهان على مجموعة حمدوك الحليفة للمليشيا، وشرعت في تغيير موقفها تجاه الجيش والحكومة السودانية.
فيما توافقت القوى الشعبية والقيادات الأهلية والمجتمعية وحركات الكفاح المسلح وجيشها الوطني على تحرير السودان أولاً، ثم الانتقال بكل شفافية وعزيمة صادقة لصناديق الانتخابات بعد فترة انتقالية تتعافى فيها البلاد من ويلات الحرب والتهجير، وينتظر السودانيون تعيين حكومة انتقالية لهذه الفترة، ومن ثم الاستعداد للانتخابات.