حريٌّ بالقول: إنه لا توجد دولة كاملة السيادة، وكاملة العضوية في معظم الكيانات والمؤسسات الدولية والإقليمية، تعرضت لمثل ما تعرضت له الدولة السودانية انطلاقاً من 15 أبريل 2023م وحتى الآن، فمحاولة الانقلاب الفاشلة على المؤسسة العسكرية السودانية من قبل مليشيا «الدعم السريع» في ذلكم التاريخ بدعم وتأييد صريحين من عدد من الجهات الخارجية، وتواطؤ وتمهيد واضحين من كتل وأحزاب سياسية داخلية، وصمت ووجوم غير مبررين من المجتمع الدولي الذي يعد السودان جزءاً لا يتجزأ منه.
يضعنا ذلك أمام تساؤل كبير عن جدوى وأهمية القانون الدولي الذي بلا شك لم يسكت عن تشخيص مثل تلكم الحالات، بل وضع لها لوائح ومواد وقرارات مجرّمة ورادعة لمن تصدر عنه مثل هذه الانتهاكات، ولكنه في الحالة السودانية وقف هو ومؤسساته عاجزين عن مجرد الإدانة الصريحة لمليشيا «الدعم السريع»، فضلاً عن إصدار عقوبات رادعة من شأنها إعادة الأمور لما قبل 14 أبريل على الأقل.
بل اكتفت بعض تلك المؤسسات الدولية أو بعض منتسبيها، بإدانات ضمنية خجولة ساوت معظمها بين الجيش السوداني والمليشيا المتمردة بواسطة تلك العبارة المجحفة «طرفي النزاع»، وتعدّت ذلك أحياناً بتوقيع عقوبات على المؤسسة العسكرية السودانية مناصفة، بل ومساواة لها بـ«الدعم السريع».
القانون الدولي
ولكن قبل التوغُّل في هذا المقال، دعونا نتعرف على ما قاله القانون الدولي على مثل هذه الحالة السودانية الغريبة والفريدة، فسيادة الدولة، بحسب القانون الدولي، هي بالضرورة ولايتها على حدود إقليمها، ولاية انفرادية مطلقة، وأن احترام السيادة الإقليمية فيما بين الدول المستقلة يعد أساساً جوهرياً من أسس العلاقات الدولية.
رد فعل المجتمع الدولي بكافة مؤسساته لم يكن على قدر وحجم الاعتداء الذي شنته المليشيا على السودان
ما سبق يعني أن أي انتهاكات أو محاولة تدخُّل من هذه الدولة أو تلك، في هذا الشأن الداخلي للدولة محل الإشكال، أو دعم الطرف المتمرد أو المنقلب على المؤسسة الحامية لهذه الدولة التي يمثلها هنا الجيش السوداني، يعد ذلك خرقاً واضحاً لقواعد القانون الدولي؛ ما يتطلب بالضرورة صدور الإدانات تباعاً من كافة الكيانات الأممية والدولية وحتى الإقليمية ضد هذه الفئة المتمردة، الذي يعقبه بالضرورة أيضاً توقيع أقصى العقوبات على هذه الكيانات المتمردة، وعلى قادتها، بل وداعميها ومؤيديها، وسجلات التاريخ القديم والحديث مكتنزة بمثل هذه الحالات.
ولكن في الحالة السودانية الآنية نجد تمرداً كامل الدسم على المؤسسة العسكرية في السودان، من مجموعة ينطبق عليها توصيف القانون الدولي للتمرد الداخلي، التي (أي هذه المجموعة التي تمثلها مليشيا «الدعم السريع») عملت وما زالت تعمل على التدمير الممنهج لكافة مناحي الحياة بالسودان، بدءاً بالبنية التحتية والمرافق العامة، وانتهاء بانتهاك حق السودانيين في الحياة الذي ترجمته قتلاً وسحلاً وتشريداً، مستعينة في ذلك بغطاءين داخلي وخارجي، وسكوت دولي ينفث فيها الروح محفّزاً إياها لارتكاب مزيد من المجازر والفظائع.
وعلى الرغم من أن السودان قد مارس حقه المشروع في الدفاع عن أراضيه وسيادته ووجوده، بحسب القانون الدولي الذي نص على أن يكون للدولة الحق في ممارسة الدفاع الشرعي إذا انطوى الاعتداء الواقع عليها على خطر حال من مصدر غير مشروع، عن طريق استخدام قوة مسلحة، وأن يكون من الضروري أن تلجأ الدولة للدفاع عن نفسها، وأن يكون العدوان ذاته من الشدة، وأن تخطر الدولة مجلس الأمن بالتدابير العسكرية التي اتخذتها لرد العدوان بعد إنفاذها لهذه التدابير، وهذا ما تحقق في عدوان مليشيا «الدعم السريع» المتمردة على الدولة السودانية.
تقاطع المصالح الدولية بالأزمة السودانية يجعل من العسير التوصل لنهاية سريعة لها وعرقلة جهود الوساطة
رد فعل صادم
ولكن للأسف لم يكن رد فعل المجتمع الدولي بكافة مؤسساته على قدر وحجم الاعتداء الذي شنته المليشيا على السودان، بل ولم يكن رد فعل تلكم المؤسسات الدولية على الأدلة الصريحة التي قدمها السودان لها التي تثبت تورط بعض الدول والجهات الخارجية في دعم مليشيا «آل دقلو» المتمردة بكافة أنواع الدعم المادي والحربي واللوجستي، بل ووقفت بعض الدول صاحبة «الفيتو» في مجلس الأمن، ضد إصدار إدانة أو مجرد التحقيق مع دول ثبت تورطها بالأدلة الدامغة (جوازات سفر) في دعم المليشيا الإرهابية.
من ناحية أخرى، نجد أنه وعلى الرغم من الحق الذي صرّح به بعض أساطين القانون الدولي في أن الدولة الواقع عليها الاعتداء تستطيع أن تجند شبابها، وتعد العدة العسكرية للذود عن حياضها، لحماية نفسها من الاعتداءات الخارجية، وتعقد تحالفات دفاعية مع الدول الصديقة، وتشترك في منظمات عالمية وإقليمية لذلك الغرض، كما قال بذلك د. محمد المجذوب في كتابه «القانون الدولي العام» (الطبعة السادسة، 2007م، ص 286)، فإن الدنيا قامت ولم تقعد بسبب تكوين السودان لما أسماه بالنفرة الشعبية التي قام بموجبها بتجييش المواطنين وتدريبهم لمواجهة خطر المليشيا على مناطقهم والدفاع عنها دفاعاً شرعياً.
ما يضعنا في حيرة من تعامل هذا المجتمع الدولي مع الأزمة السودانية التي تقاعس عن توصيفها ابتداء، وشارك في تطاول أمدها، وما انفكّ يضع العراقيل أمام جهود الحل المحايدة التي يهمها وضع نهاية سريعة لهذه الأزمة.
ثمة فجوة كبيرة بالقانون الدولي بين الواقع والتطبيق فيما يتعلق بالأزمة السودانية تؤكد ازدواجية المعايير
ولكن يبدو أن تقاطع المصالح الدولية في الأزمة السودانية يجعل من العسير التوصل لنهاية سريعة لها، أو العمل على عرقلة كل جهود الوساطة والتوصل لإنهائها ريثما يتم الاتفاق بين الكبار على الإخراج النهائي لمشهد النهاية الذي تدور معارك طاحنة خلف كواليسه، فما بين روسيا الطامحة والطامعة في الموانئ السودانية لتشييد قواعد عسكرية بها، التي أخذت ضوءاً أخضر فيما يبدو من الجيش السوداني، وأمريكا التي تقف مذعورة من هذا التقارب الروسي السوداني، وتعمل جاهدة لإحباطه ووضع العراقيل أمامه، والصين التي لن تفرّط في حقها في المؤسسات النفطية السودانية (مصفاة الجيلي لتكرير البترول)، ثمة لاعبين كثر سيكون وقف هذه الحرب بمثابة الإسفين الذي سيُدق على رؤوسهم مؤذناً بانهيار إمبراطورياتهم الاقتصادية التي تطاولت أمداً من الدهر على حساب السودان والاقتصاد السوداني، وحان أوان انهيارها.
ختاماً، ثمة فجوة كبيرة في القانون الدولي بين الواقع والتطبيق فيما يتعلق بهذه الأزمة السودانية، يؤكد ازدواجية المعايير التي تتعامل بها المؤسسات الدولية تجاه الصراعات الداخلية أو الخارجية فيما يسمى بدول العالم الثالث التي تمتلك أغلب ثروات العالم، ولكنها للأسف لا تمتلك القدرة والقوة والحماية لاستغلالها وتوظيفها في النهضة التي تحتاجها؛ ما يجعلها نهباً مباحاً وحلاً مستباحاً لمن يملك السلطة والقوة والنفوذ.