يقول الله تعالى: (وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) (يونس: 87)؛ من الدلالات الواضحة في هذه الآية أن البيوت في فكرتها ودورها مسؤولة عن الدين والدنيا والقيم والحياة؛ لأن منزلتها مستمدة من منزلة المسجد، ولها احترام وإجلال من احترام وإجلال المسجد، فهي قبلة بمركزيتها في النفس والفكر والنشأة والحياة.
وأيضاً من مدلولات كلمة البيت التربوية أننا نقلنا مسماها من البناء المادي إلى البناء المعنوي؛ فنجد الناس يقولون: فلانٌ من بيت عز، وفلانٌ من بيت صدق، وفلانٌ من بيت كرم، في إشارةٍ واضحةٍ إلى ما تحمله عائلته من أخلاق ومروءة؛ لأن البيت هو الحاضنة الأولى لبناء القيم وتعزيز السلوك الإيجابي، وبناء الضمير الإنساني.
قال الله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، قال الآلوسي: قوله: (مِّنْ أَنفُسِكُمْ) فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم، متضمن لخلقهن من أنفسكم(1).
وهنا إشارة لطيفة لمكان ومكانة وتمكين الزوجة من قلب زوجها، فأصل خلقتها من ضلع من الجهة اليسرى وهي جهة القلب، قال ابن حجر: «كأن فيه إشارة إلى ما أخرجه ابن إسحاق في المبتدأ عن ابن عباس أن حواء خُلقت من ضلع آدم الأقصر الأيسر»(2).
وهنا سؤال: لماذا خلقت حواء من ضلع آدم (وهو قول أكثر المفسرين)؟ لماذا لم تُخلق من رأسه أو من عضلة من عضلاته أو من يده أو رجله؟
فمثلاً لو افترضنا أن حواء خلقت من رأس آدم، لصارت أعقل منه وأوفر حظاً في الذكاء والفطنة، ولكانت العقل المدبر في كل شيء لطبيعة خلقتها.
ولو خلقت من عضلاته لصارت أقوى منه لطبيعة خلقتها من العضلات (لك أن تتخيل كيف حال الدنيا لو أن المرأة أقوى من الرجل!)، ولكن هل هذا مناسب لطبيعتها التي خلقها الله من أجلها؟
ولو خلقت من قدمه لوطأتها الأقدام، ولحطَّ الرجال من قدرها، ولكن كرمها الله وخلقها من ضلع من الجهة اليسرى (جهة القلب) ليعلم مكانها الحقيقي فيعيدها إليه معززة مكرمة، ومن مكانها تكون السكن والمودة والرحمة.
ونقرأ أيضاً في كتاب الله عز وجل آية تصف العلاقة الزوجية بأوجز عبارة وألطف إشارة، جمع الله فيها من المعاني ما لو اجتمع أهل الأرض جميعاً إنسهم وجنهم على أن يأتوا بمثل هذه الآية وما فيها من معانٍ لعجزوا، قال الله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) (البقرة: 187).
واللباس يحمل معاني كثيرة، منها:
– يحمل معنى الستر: فهو يستر الإنسان، كذلك الزوج مع زوجته يسترها والزوجة مع زوجها، فأيهما يفشي سراً للآخر فكأنما يلبس ثوبًا ممزّقًا.
– ويحمل معنى الحماية: فاللباس يحمي الإنسان من الأضرار كذلك الزوج مع زوجته يحميها ويحفظها، والزوجة مع زوجها كذلك.
– يحمل معنى الراحة: كما قال قتادة: هن لباس لكم؛ أي: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن.
– يحمل معنى الزينة: فالثياب يزيّن الإنسان كذلك الزوجين كل منهما يزين الآخر، وكذلك القرب: فأقرب شيء لجسدك هو الثياب، كذلك الزوج مع زوجته قريبان من بعضهما قرب الثوب من الجسد (فهي له شِعار، وهو لها دثار).
كل هذه المعاني وغيرها أودعها الله تعالى في قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)، لذلك من الأهمية بمكان فهم مثل هذه المعاني للعلاقة الزوجية، وأن يرتقي أسلوب التفاهم بينهما؛ لأنه كلما ارتقى زادت مشاعر الحب والاحترام والأمن والاستقرار في أبنائهم.
وهنا تجدر بنا الإشارة إلى أنه لا يوجد بيت ليس فيه مواقف تصدر عنها مشكلات بين الزوجين، ولكن تختلف البيوت في درجة التفاهم بين أفراد الأسرة، وقد حدثت بعض المواقف في بيت النبوة، مثل: ما روته أمّ سلمة أنها جاءت بطعامٍ في صَحْفةٍ لها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، فجاءت عائشةُ مُلتفَّةٌ بكساءٍ ومعها فِهرٌ ففلقتِ الصَّحفةَ فجمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين فلقَي الصَّحفةِ وقال: «كلوا غارَتْ أُمُّكم» (مرتَينِ)، ثم أخذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صحفةَ عائشةَ فبعث بها إلى أمِّ سلمةَ، وأعطى صحفةَ أمِّ سلمةَ لعائشةَ.
ولو سألت أي إنسانٍ: ماذا تفعل لو زوجتك ألقت الطعام أمام أضيافك؟ سيصدمك جوابه!
لذلك يجب أن نستشعر المسؤولية التربوية من وراء المواقف الزوجية، وأنها تنعكس على تربية الأبناء وعلى أخلاقهم وسلوكهم الاجتماعي.
بل أكاد أجزم أن ما نراه من تردي أخلاق بعض الأفراد ليس إلا بسبب تفكك أسرهم، أو سوء علاقة الأزواج ببعضهم، أو انشغال الوالدين عن أبنائهما، فتحل وسائل الإعلام مكان الوالدين في التربية والتعليم، وزادت في زماننا هذا ما يطلق عليه مواقع التواصل الاجتماعي الطين بلة! فبعد الاجتماع الأسري اليومي، والمرح الجماعي العائلي، والفضفضة بين أفراد العائلة الواحدة، والزيارات المتبادلة، واللعب مع أبناء الجيران، أو زملاء المدرسة والأقارب.. صار الاجتماع شبه مستحيلًا! بعد أن انشغل كل فرد من أفراد الأسرة بمواقع التواصل، حتى طال الأمر الأب والأم، حتى أثناء الاجتماعات الأسرية يحضر الفرد في بعض الأحيان بالجسد ويغيب عقله في غياهب مواقع التواصل.
ولا يعرف قدر النعمة إلا من فقدها، فسل مشردًا أو لاجئًا عن نعمة البيت، واستمع إلى كلماته التي يملؤها الأسى والحزن، وإلى أمنيته في بيت صغير حتى ولو غرفة واحدة لتكون له مأوى وسكنًا، وراحة وأمانًا في كنف من يحبونه.
وستجد ذكريات بيته الأول عالقة في أعمق مكان من ذاكرته، ويأتيه طيف الذكريات تحمل ضحكاته بين جدران بيته، تحمل مواقف الطفولة من أفراح وأحزان.
هذه الذكريات تملأ القلب بشعور قائم على الانتماء للبيت الذي عاش فيه ذكرياته الأولى، وتحمل الإنسان إلى الرجوع بذاكرته إلى تلك اللحظات الباقية ما بقي هذا الإنسان وعاش، وتُلزمه هذه الذكريات بأخلاق بيته وأعرافه وما نشأ عليه من قيم ومبادئ وأخلاق بعد أن حُفرت على جدار عقله.
فعلى كل مربٍّ أن يشحن منزله بطاقة الحب والمودة، وغرس القيم والمبادئ السليمة.
ومما سبق نستخلص 3 عناصر أساسية لاستقرار البيوت الإنسانية:
أولاً: بناء علاقة قوية بين المرء وزوجته.
ثانياً: بناء علاقة قوية بين ربّ البيت وأسرته.
ثالثاً: المنهج القيمي من الكتاب والسُّنة.
إن هذه العناصر عماد البيوت وسر استقرارها، ومن غير هذه الدعائم المشار إليها سيتعب المرء كثيرًا في التربية؛ إذ كيف يكسو غيره وثيابه ممزقة؟ وكيف يريد أن يبني القيم والجسور بينه وبين أبنائه مهدمة؟ وهل يستطيع إنسانٌ بمفرده أن يبني بيتًا من غير رسم هندسي وتحديد مواد البناء وما يصلح منها لبناء بيته؟ فلا بد من وجود هذه العلاقة الثلاثية لنجاع العملية التربوية، واستقرار البيوت الإنسانية.
__________________________
(1) تفسير الألوسي (11/ 31).
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ، (9/ 253).