الصراع الذي حدث في السودان بين القوات المسلحة و«قوات الدعم السريع»، في 15 أبريل 2023م، لم يكن العامل الأيديولوجي، أو العسكري، المحرك الأساسي لهذا الصراع، وإن كانت الأطماع الشخصية والنزعات السلطوية من ضمن عوامل كثيرة دفعت باتجاه الصدام المسلح.
إلا أن العامل الأكثر تأثيراً في الصراع كان العامل الخارجي، الذي ظل أثره واضحاً من قبل الوصول إلى نقطة الصراع المسلح، فالناظر إلى نشأة الثورة السودانية التي اقتلعت نظام الرئيس عمر البشير يمكن أن يدرك تماماً بروز العامل الخارجي بدرجة كبيرة في أحداث هذا التغيير.
فالولايات المتحدة الأمريكية وفي إطار نظرية «الفوضى الخلاقة» التي هدفت لتشكيل واقع جديد في الشرق الأوسط، لم تكن لتترك السودان بعيداً عن هذه العملية، لاعتبارات عديدة، في مقدمتها موقع السودان الإستراتيجي، الذي تعتبره أمريكا مفتاحياً لتواجدها ورعاية مصالحها في أفريقيا، إضافة لأهمية تأمين حلفائها على البحر الأحمر، وإبعاده عن صراعات القوى على مستوى النظام الدولي.
البعثة الأممية لم تلتزم الحياد فقد كانت ظهيراً للشق المدني بالحكومة دون العسكري ما عقَّد المشهد
كما أن نظام البشير الذي يسنده الإسلاميون في السودان كان يشكل هاجساً للإدارات الأمريكية المتعاقبة، خاصة بعد الصعود المتوالي للإسلاميين في ليبيا وتونس ومصر وغزة في فلسطين؛ ما جعلهم يستشعرون خطر الأنموذج السوداني الذي سعى من خلال المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي في مرحلة من مراحله لتوحيد الشعوب العربية والإسلامية، واعتبرته الإدارة الأمريكية خطراً جندت كل طاقاتها من أجل تفكيكه، وقد نجحت في ذلك.
الصناعة الخارجية للثورة
وهذا يجعلنا وفقاً لواقع الحال، ومعطيات الثورة السودانية ويومياتها، أن نلامس حقيقة الصناعة الخارجية لهذه الثورة، التي لم تكن الدوائر الغربية حريصة على إخفاء معالمها، فقد تجاوز معظم سفراء الغرب والعرب المشاركون في صناعة هذه الثورة ورعايتها الأعراف الدبلوماسية، بالظهور علناً وسط الثوار في اعتصامهم أمام بوابات القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية.
ثم امتد هذا التدخل ليشمل التشاور مع هذه الدوائر الغربية في كيفية تكوين الحكومة المدنية، التي كانت عبارة عن وزراء يحملون جنسيات مزدوجة، مع رئيس وزراء يتقاضى راتبه ومخصصاته من الاتحاد الأوروبي، وكان من الطبيعي في وضع كهذا أن تضغط هذه الدوائر الغربية على رئيس وزراء الفترة الانتقالية في السودان من أجل تقديم طلب للأمم المتحدة، طالباً بعثة سياسية تحت «البند السادس»؛ وهو ما زاد من تعقيد المشهد السياسي السوداني، ووضع الحكومة في شبه وصاية أممية، غير أنها كانت بأجندة دول بعينها.
الاتفاق الإطاري كان أكبر مظاهر التدخلات الخارجية بعد إقناع الدوائر الغربية قائد «الدعم السريع» به
هذه البعثة الأممية لم تلتزم الحياد، فقد كانت ظهيراً للشق المدني في الحكومة دون الشق العسكري؛ ما عمل على تعقيد المشهد السياسي السوداني، بل إن البعثة الأممية وبقيادة رئيسها فولكر بيرتس أعدت مشروع الاتفاق الإطاري لحكم السودان، الذي عمدت فيه لجعل بند دمج «قوات الدعم السريع» في القوات المسلحة السودانية يتم خلال 20 عاماً، في الوقت الذي ترى القوات المسلحة أن يتم الدمج خلال عامين فقط.
وهذه الجزئية بالتحديد كانت مربط الفرس في سعي البعثة والمكون المدني في جعل «الدعم السريع» بديلاً للجيش السوداني، في إطار خطة أمريكية-«إسرائيلية» لتفكيك الجيش السوداني الذي يشكل عظم الدولة السودانية، ليسهل بعد ذلك تقسيم السودان وتوزيع مناطق النفوذ فيه.
وكان الاتفاق الإطاري أكبر مظاهر التدخلات الخارجية في الشأن السوداني خاصة بعد أن أقنعت الدوائر الغربية قائد «قوات الدعم السريع» بالتضامن الكامل مع الشق المدني بأن مخرج السودان السياسي يكمن في التوقيع على الاتفاق الإطاري.
ولعل مما يدلل على ذلك السؤال الذي وجهه أحد الصحفيين لقائد «الدعم السريع» محمد حمدان دقلو، في مؤتمر صحفي عقده بعد عودته من دارفور عقب لقاء مشهود جمعه هناك برئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان بيرتس، حيث أعلن قائد «الدعم السريع» في هذا المؤتمر تبنيه للاتفاق الإطاري، فباغته الصحفي بسؤال كانت صيغته: هل اطلعت على الاتفاق الإطاري؟ وكانت إجابة قائد «الدعم السريع» النفي بـ«لا».
أول التدخلات كان الدعم غير المحدود من دولة إقليمية لـ«الدعم السريع» بموافقة أمريكية «إسرائيلية»
ومن هنا بدأ الصراع الحقيقي بين القوات المسلحة السودانية و«قوات الدعم السريع»، والذي هو جزء من القوات المسلحة وفقاً لقانون أنشأ هذه القوات، وقد تصاعدت الخلافات إلى أن وصلت مرحلة الصدام المسلح الذي وضح من خلاله التقاطعات الخارجية في الحرب السودانية، حيث برزت أشكال هذا التدخل من خلال العديد من المواقف والدلالات.
الدعم الإقليمي والدولي
وأول هذه التدخلات برزت من خلال الدعم غير المحدود الذي قدمته دولة إقليمية معروفة لـ«قوات الدعم السريع» بكل أشكال وأنواع الدعم العسكري، وهذا الدعم تم بترتيب وموافقة أمريكية بريطانية «إسرائيلية»؛ وهذا ما جعل مشاركة عرب الشتات في هذه الحرب من تشاد والنيجر وليبيا وغيرها من الدول تحت سمع وبصر حكومات هذه البلاد، التي أخذت الضوء الأخضر الأمريكي، حتى أصبحت المطارات التشادية مطارات عسكرية لتزويد «الدعم السريع» بالسلاح، كما أنشئت معسكرات في صحراء ليبيا وفي تشاد لتزويد المليشيا بالمقاتلين.
وقد وصل حجم التدخل في السودان لدرجة مشاركة نحو 18 دولة في الحرب على السودان، حسب إفادة لقائد الجيش السوداني.
لا شك أن هذه التدخلات الخارجية في الشأن السوداني انطلقت من مصالح وتقاطعات لكل هذه الدول في السودان وأفريقيا، إلا أن الوصول بالسودان إلى مرحلة الحرب قد جعل تكلفة هذه المصالح باهظة الثمن، كما أثر تأثيراً كبيراً على التوازن الدولي.
إنهاء الحرب ليس في يد السودانيين وإنما في قرار دول خارجية تتقاطع مصالحها في السودان
وقد تجلى ذلك بصورة كبيرة في الانفتاح السوداني على الحلف الروسي الصيني التركي الإيراني، بعد أن قامت أمريكا وبريطانيا بإغلاق كل منافذ مد الجيش السوداني بالسلاح، وإعاقة كل صفقات السلاح التي حاول الجيش السوداني إبرامها، هذا الضغط الذي مورس على حكومة السودان جعلها تتجه نحو الحلف الروسي؛ ما جعل أوراق اللعبة تختلط على الإدارة الأمريكية، التي لن تجد مفراً غير محاولة إرضاء الحكومة السودانية، وكعادة أمريكا فإنها ستبدأ في تغيير مواقف الدول المجاورة للسودان، وترسل عبرها رسائل إلى السودان، وربما تعمل على إيقاف الحرب بالضغط على الدولة الإقليمية الداعمة والدول المجاورة للسودان المشاركة في الحرب، إضافة لتضييق الخناق على «قوات الدعم السريع».
لأن أمريكا تعلم أن توقيع أي معاهدات عسكرية بين روسيا والسودان وفي ظل تطور العلاقات السودانية الإيرانية، فإن ذلك يعني انتهاء الحرب لصالح الجيش السوداني، وهذا سيولّد واقعاً جديداً بعد الحرب، قد يفضي إلى قيام حكومة جديدة رافضة للتعاون مع كل الدول التي كانت سبباً مباشراً في إشعال الحرب، وربما تكون رافضة لمبدأ التطبيع مع «إسرائيل»؛ ما يقوض كل المصالح الأمريكية في القارة الأفريقية.
فهل تسارع أمريكا لوقف الحرب متخذة طريق التفاوض وسيلة لذلك، أم تنجح روسيا في إبرام اتفاقية عسكرية تكتب نهاية الحرب في السودان؟
كل المؤشرات تذهب باتجاه أن إنهاء الحرب ليس في يد السودانيين، وإنما في يد دول خارجية تتقاطع مصالحها في السودان، وهي القادرة على إيجاد المخرج لهذا الصراع.