زعموا أنه يُحكى أن ثعلباً ماكراً نقله أعوانه ليعيش في غابة كبيرة يتم تنصيب ملكها بالانتخاب المباشر بين كل الحيوانات، جِيء بالثعلب من أقصى الغابة واحتل ركناً جميلاً من السهول الخصبة يحوي كل الخيرات من جداول الماء وكهوف الأرض وتشابك الأشجار وتساقط الثمار وحبات السنابل، استوطن فيه لينعم بخيراته وصيده، وسُمح لكل من أراد من الثعالب البعيدة أن تستوطن هذه الأرض هي ونسلها.
كانت هذه البقعة المفضلة في الغابة تسكنها وتتوارثها منذ دهور مديدة أجيال الحمائم البيضاء الوديعة العاشقة للحرية، ولكن الدببة جاءت من أطراف الغابة مما وراء البحر واحتلت المكان غصباً حيث كان يحكم الغابة في تلك الأيام دبها الكبير، فاستخدمت جنوده من النسور الجارحة لإبعاد الحمام، فطار بعضها وهاجر إلى أطراف متباعدة.
ووعدت الدببة أن تمنح وطن الحمائم إلى الثعالب التي لا تقبلها حيوانات ما وراء البحر، ولتعود الدببة إلى مكانها الأصلي، أما الثعالب فاستخدمت نفوذها الكبير وجنودها الطائرة للاستيلاء على بيوت الحمام لتقتل الكثير منهم ويفر الكثير طيراً إلى شتات الآفاق البعيدة والقريبة، على مرأى من جيران الحمام الذين أعلنوا شجبهم لما يحدث.
ومع مرور الأيام، أصبحت الأرض المحتلة من الثعالب، بمباركة الملوك المتتابعين الحاكمين بقانون الغاب، كدولة داخل دولة، أو بالأحرى غابة داخل غابة، فتضخمت ثروتها، وتوطد نفوذها، وقويت شوكتها، وشن جنودها هجوماً كاسحاً على ما بقي من الحمائم وأهلكت الكثير منهم ودمرت بيوتهم، ولا تزال تطمع أن تبسط نفوذها على أرض الجيران الملاصقة ليمتد ملكها ويكبر كيانها، ولأجل هذا تستمر في السيطرة على أي ملك منتخب للغابة لتحصل على دعمه اللامتناهي.
وسط هذا التدمير الشامل، اقترب وقت الانتخابات الجديدة، ورشحت بعض الحيوانات لرئاسة الغابة الحمار العجوز الذي لا يكل من الشغل وهو الملك الحالي المغرم بالثعالب، والبعض الآخر رشح الفيل القوي الباطش الغاشم الذي سبق أن اعتلى عرش مملكة الغاب وباع نفسه للثعالب.
واجتمعت الثعالب في مؤتمر كبير، وقرروا أن يستخدموا كل نفوذهم لمساعدة الحمار والفيل معاً، والذي ينجح منهما على كل حال سيكون تحت خدمتهم وطوع أمرهم، وسيستمر في مد الثعالب بكل ما يريدون بلا حساب، وأعلن الحمار أنه سيستمر في منح الثعالب كل ما تريد، وتبعه الفيل قائلاً: إنه سيقدم لها أكثر مما تريد، والغابة أمام خيارين أحلاهما أمرّ من العلقم والحنظل.
الرموز
الحمار والفيل رمزان لأقوى حزبين في أمريكا، فالحمار رمز حزب الديمقراطيين، أما الفيل فيرمز للحزب الجمهوري، وتعود قصة اختيار الرمزين إلى أوائل القرن التاسع عشر، عندما قام معارضو المرشح الرئاسي أندرو جاكسون بإطلاق اسم «جاك آس» عليه، وهي كلمة سيئة للحمار، فاختار جاكسون الحمار رمزاً لحملته الانتخابية في تحدٍّ لهؤلاء، وفاز لفترتين!
وفي وقت لاحق، استخدم الرسام توماس ناست الفيل كرمز للحزب الجمهوري، كدليل على الحجم والنفوذ الكبيرين للحزب، فرسم فيلاً ضخماً هائجاً يحطم كل ما حوله، وكتب على جسمه عبارة «الصوت الجمهوري».
الحمار حيوان بليد، بلا بصيرة، ضرب به القرآن الكريم المثل في أنكر وأقبح الأصوات، وضرب به المثل في الجهل، فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) (الجمعة: 5)، فلو كان شيء من الحيوان أجهل بما في بطون الأسفار من الحمار، لضرب الله المثل به دونه.
والفيل أضخم الحيوانات الأرضية، إذا غضب لا يهدأ، له خرطوم طويل يلويه على ما يريد أذاه من الحيوان، ويلقيه أرضاً ويدوسه بقوائمه، وهو مركوبٌ وحاملُ أثقال وكان أهل الهند والصين يجعلونه كالحصن في الحرب فيضعون محفة على ظهره تستوعب ستة جنود، وجلب أبرهة الحبشي الفيل مع جيشه لهدم الكعبة.
سجل الحمار
ارتبط الحزب الديمقراطي بحماية مؤسسة العبودية قبيل الحرب الأهلية الأمريكية عام 1862م، ومن الرؤساء الديمقراطيين:
– هاري ترومان الذي أمر بإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما ونجازاكي في اليابان.
– جون كنيدي، الذي بدأ رئاسته عام 1961م، فرغم أنه لم يبدأ حرب فيتنام وورثها من أيزنهاور (الجمهوري)، فإن كنيدي (أول رئيس كاثوليكي، الثاني بايدن) كان السبب في تورط أمريكا أكثر في الحرب.
– جيمي كارتر الذي أشرف على توقيع معاهدة «كامب ديفيد» المجحفة لقضية فلسطين بين مصر (التي حيدها هذا الاتفاق) و«إسرائيل» (المستفيد الأول إستراتيجياً).
سجل الفيل
عقب هجمات 11 سبتمبر2001م، تصدرت واجهة الحزب مجموعة المحافظين الجدد، وفرضوا نظرتهم على السياسة الخارجية، وخلال حضورهم القوي كان غزو أفغانستان عام 2001م (وصل عدد الجنود 110 آلاف)، وغزو العراق عام 2003م (عدد الجنود 177 ألفاً)، ومن الرؤساء الجمهوريين:
– بوش الأب الذي وقف لغزو واحتلال العراق للكويت في 1990م، وشكّل تحالفاً دولياً (عاصفة الصحراء) أنهى به الاحتلال، وأسس لوجود عسكري أمريكي في السعودية، وهو إنجاز ذو منافع إستراتيجية لأمريكا.
– بوش الابن الذي حكم بين عامي 2001 و2009م، وفي عهده تم غزو واحتلال العراق بسيطرة عسكرية شاملة بذريعة كاذبة عن امتلاكه لأسلحة دمار شامل، فسقط نظام صدام حسين، وقُدرت الخسائر البشرية بمليون قتيل ومصاب، وملايين المشردين، وخسائر مادية للطرفين تقدر بتريليونات الدولارات، وانزلاق البلاد في عنف طائفي.
– ترمب الذي تجاهل سيادة القانون بشكل صارخ بإصداره العفو عن مليشيات مقاولي شركة «بلاك ووتر» الذين قتلوا المدنيين العراقيين العزل، والنساء والأطفال الأبرياء، وفي عام 2017م حصل من السعودية على صفقة دفاعية بقيمة 460 مليار دولار، وبعد أشهر اعترف رسمياً بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، ويَعد الآن بإغلاق الحدود وطرد ملايين اللاجئين الذين وصفهم بـ«الذين سمموا دمنا»، لعل ذلك سيذكّر العالم بمشاهد ترحيل أكثر من مليون مهاجر مكسيكي في عهد أيزنهاور الجمهوري أيضاً.
تمكن اللوبي «الإسرائيلي» المتحالف مع اليمين المتطرف وتجار الطاقة والسلاح التحكم بحزب الفيل من خلال جماعات «إسرائيلية» الهوية لها أذرع مالية وسياسية وإعلامية قوية، ومارس هذا اللوبي دوراً كبيراً في دعم الجمهوريين لاستعادة السيطرة والهيمنة على المجالس التشريعية لعرقلة مشاريع الرئيس الديمقراطي أوباما.
الثعلب يستغل الحمار والفيل
بدأ الدعم الأمريكي لـ«إسرائيل» منذ إنشائها عام 1948م، إذ كانت أمريكا أول دولة اعترفت بقيام دولة الاحتلال، عندما اعترف الرئيس ترومان (الديمقراطي المدمر لهيروشيما ونجازاكي) بـ«إسرائيل» بعد 11 دقيقة من إعلان قيامها.
وتعدّ «إسرائيل» أكبر متلق تراكمي للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ تأسيسها، مهما كان حزب الرئيس، فتلقت 310 مليارات دولار من إجمالي المساعدات الاقتصادية والعسكرية، بحسب «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية»(1).
ومنذ بدء الحرب ضد غزة، في 7 أكتوبر 2023م، سنّت أمريكا تشريعاً يوفر 12.5 مليار دولار من المساعدات العسكرية لـ«إسرائيل»، بما في ذلك 3.8 مليارات دولار تُقدم سنوياً حتى عام 2028م، بالإضافة إلى 8.7 مليارات دولار من الاعتمادات التكميلية، وقامت إدارة بايدن بمائة عملية تحويل مساعدات عسكرية لـ«إسرائيل»، وتلقى الجيش «الإسرائيلي» شحنات سريعة من أسلحة المخزون الإستراتيجي الذي احتفظت به أمريكا في «إسرائيل» منذ الثمانينيات.
وتم نقل 35 ألف طن من الأسلحة والذخيرة إلى «إسرائيل» على متن أكثر من 300 طائرة ونحو 50 سفينة معظمها من أمريكا، وشمل التدفق الاستثنائي لأسلحة الموت ذخائر الدبابات والمدفعية والقنابل والصواريخ، وتدرس إدارة بايدن مبيعات عسكرية جديدة لـ«إسرائيل» بقيمة 18 مليار دولار، وستشمل 50 طائرة مقاتلة من طراز «F-15»(2).
وبعد.. فإنها قصة ما زالت تدور فصولها بين غباء حمار الحزب الديمقراطي وبطش فيل الحزب الجمهوري ومكر الثعلب، وإن لم ينتفض جيران الحمائم لنصرتهم، فسيستمر حكم الغاب بالنفوس السبعية الغضبية التي همتها العدوان والقهر، وسيصل الثعلب إلى هؤلاء الجيران أنفسهم عاجاً أم آجلاً، حتى لو قاموا بالتطبيع معه! فالثعلب يريد دولة كبرى من النيل إلى الفرات، وتشمل الجزء الشمالي من شبه الجزيرة العربية، وهناك خرائط أخرى تضم مكة والمدينة المنورة، وهي تضم أيضاً بلاد الشام (فلسطين ولبنان وجزء كبير جداً من سورية)، وغرب الفرات (جزء كبير من العراق وأجزاء من تركيا والكويت)، وشبه جزيرة سيناء والجزء الشرقي من نهر النيل، وبعض الخرائط تضم الدلتا المصرية.
مُخطِئٌ مَن ظَنَّ يَوماً أَنَّ لِلثَعلَبِ ديناً.
_____________________________
(1) U.S. Foreign Assistance to the Middle East: Historical, Recent Trends, Congressional Research Service, 15 August 2023.
(2) U.S. Aid to Israel in Four Charts, The Council on Foreign Relations (CFR), 31 May 2024.