مشهد يتكرر كثيراً في أي محاولة لبعض الجهات التي تحاول الحط من العلاقة بين المسلمين والقدس، لا سيما في حالة بعض الأكاديميين «الإسرائيليين» المتحدثين باللغة العربية أو بعض الجهات العربية التي تتبنى الأيديولوجية الصهيونية بالكامل، هو أن يأتيك أحدهم بنص الآية الكريمة من سورة «المائدة» على لسان نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (المائدة: 21)، فيدعي أن هذه الآية الكريمة تعتبر مصداقاً قرآنياً لفكرة «الأرض الموعودة» التي وردت في التوراة في «سفر التكوين»: «لنسلك أعطي هذه الأرض»، وأنها تعني أن الله تعالى قد أعطى هذه الأرض لبني إسرائيل.
وبالتالي، فإن علينا أن نسلِّم –حسب هذا الادعاء– بهذا القضاء الإلهي ونتنازل عن الأرض المقدسة لصالح دولة الاحتلال «الإسرائيلي» اليوم.
وهو ما يعني بالضرورة أن يصبح التنازل عن فلسطين حسب هذه الادعاءات واجباً دينياً، وبالتالي فإن من يتمسك بأحقيته بهذه الأرض من أبناء أمتنا يعتبر عاصياً لله سبحانه، ومن يتعاون بالمقابل مع الاحتلال ضد أبناء شعبنا وأمتنا في أرض فلسطين يصبح هو التقي المطيع لأوامر الله عز وجل، فتنقلب الموازين وتختل المفاهيم ويصبح المنكر معروفاً والمعروف منكراً!
هذه خطورة هذه الشبهة التي يرفعها هؤلاء في وجه أصحاب الحق في فلسطين، ولذلك فإن علينا بالتأكيد تبيين واقع وحقيقة هذا الادعاء وخطورة هذه الشبهة.
وفي الحقيقة، ينبغي القول هنا: إن قراءة نص هذه الآية بهذا الشكل لا يختلف كثيراً عن قراءة قوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ) (النساء: 43) مقطوعاً عن بقية الآية الكريمة.
فهذه الآية في سورة «المائدة» جاءت على لسان موسى عليه الصلاة والسلام مخاطباً بني إسرائيل الموحدين في ذلك الوقت، حيث أعطاهم الأمر الإلهي بدخول الأرض المقدسة التي كانت في ذلك الوقت تعاني من انتشار الظلم والكفر فيها، ولدى إكمال قراءة النص القرآني الكريم نجد أن بني إسرائيل في ذلك الوقت كما يبدو لم يفهموا هذه النقطة، بل ظنوا أن العطاء كان لهم بسبب نسبهم، فقالوا لموسى عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ) (المائدة: 22).
ولما طال الجدال بينهم وبين موسى عليه الصلاة والسلام قالوا كلمة عظيمة: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) (المائدة: 24).
فكان الحكم الإلهي عليهم: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ) (المائدة: 26)، وتلاحظ هنا أن إشارة الوقف الخاصة هنا تأتي قبل وبعد قوله: (أَرْبَعِينَ سَنَةً)، ليشير القرآن الكريم إلى صحة المعنى سواء قرأته: «فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض» أو «فإنها محرمةٌ عليهم، أربعين سنةً يتيهون في الأرض»، وهذا يعني أن التحريم لذلك الجيل بالدخول في الأولى، والتحريم أبدي بالملكية في الثانية، وكلام المعنيين يعطيهما القرآن الكريم.
كما أنك لدى قراءتك الآيات ترى أن موضوعها لا يرتبط بحالٍ بنسبٍ بني إسرائيل، بل بمسألة الإيمان والكفر تحديداً، ومن الواضح أن القرآن الكريم لم يترك لأحدٍ مجالاً لأن يدعي غير ذلك، حيث إن الله عز وجل عندما أنزل كتاب الزبور على نبي الله داود عليه الصلاة والسلام في القدس نفسها، أي بعد أن دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة وتوَّجوا ذلك بدخول مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك، ذكر الله تعالى في الزبورِ آيةً أعطت لبني إسرائيل منهجاً ثابتاً في موضوع وراثة وكتابة الأرض.
ومن اللافت أنه لم ينجُ من كتاب الزبور -الذي لا ندري ما كان فيه- إلا آيةٌ واحدةٌ اختارها الله سبحانه وتعالى كي تخلد إلى يوم القيامة حين ذكرها القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى في سورة «الأنبياء»: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء: 105)، هذه الآية الوحيدة التي نجت من الزبور وبقيت مذكورةً في القرآن الكريم لم يأتِ ذكرها جزافاً، بل لتبيين أن منهج العطاء الإلهي للأرض لا علاقة له بالأنساب والأعراق، بل يعتمد على الصلاح والإيمان فقط.