أورد ابن هشام في السيرة النبوية أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مَعَهُ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَّا مَنْ حُبِسَ أَوْ فُتِنَ، إلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِجْرَةِ، فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَعْجَلْ لَعَلّ اللهَ يَجْعَلُ لَك صَاحِبًا»، فَيَطْمَعُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ(1).
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستطيع أن يهاجر وحده، كما كان يذهب إلى الغار وحده، لكنه قال لصاحبه أبي بكر الصديق: «لا تعجل»؛ حتى فهم الصديق أنه يريد صحبته، ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: لَقَلَّ يَوْمٌ كانَ يَأْتي علَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إلَّا يَأْتي فيه بَيْتَ أبِي بَكْرٍ أحَدَ طَرَفَيِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أُذِنَ له في الخُرُوجِ إلى المَدِينَةِ، لَمْ يَرُعْنَا إلَّا وقدْ أتَانَا ظُهْرًا، فَخُبِّرَ به أبو بَكْرٍ، فَقالَ: ما جَاءَنَا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في هذِه السَّاعَةِ إلَّا لأمْرٍ حَدَثَ، فَلَمَّا دَخَلَ عليه قالَ لأبِي بَكْرٍ: «أخْرِجْ مَن عِنْدَكَ»، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّما هُما ابْنَتَايَ -يَعْنِي عَائِشَةَ وأَسْمَاءَ- قالَ: «أشَعَرْتَ أنَّه قدْ أُذِنَ لي في الخُرُوجِ؟»، قالَ: الصُّحْبَةَ يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: «الصُّحْبَةَ»، قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ عِندِي نَاقَتَيْنِ أعْدَدْتُهُما لِلْخُرُوجِ، فَخُذْ إحْدَاهُمَا، قالَ: «قدْ أخَذْتُهَا بالثَّمَنِ»(2).
ففي هذا الموقف وغيره من مواقف الصحبة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومواقف الصحابة مع بعضهم بعضاً؛ ما يدل على أهمية الصحبة في حياة المسلم، فضلاً عن أهميتها الفطرية في حياة الناس وحاجتهم إليها، ويتبين ذلك فيما يأتي:
1- الحاجة النفسية إلى الصديق:
تسهم الصداقة في تحقيق الأمن النفسي للإنسان، فقد أثبتت الدراسات النفسية أن الإنسان في أمسّ الحاجة إلى الأصدقاء الذين يشعرونه بالأمن النفسي(3)، كما أكدت الدراسات أيضاً أن أبرز مؤشر إيجابي للطمأنينة النفسية شعور الفرد بالأمن النفسي من خلال النجاح في إقامة علاقات مع الآخرين وتحقيق التوافق النفسي معهم(4).
2- الحاجة الدعوية إلى الصديق:
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بصحبة الصالحين، وعدم الابتعاد عنهم لأي سبب من الأسباب، فإن في هذه الصحبة إعانة على طاعة الله تعالى، كما أمره بعدم مصاحبة من ابتعد عن طريق الله سبحانه، حيث قال الله عز وجل: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) (الكهف: 28).
وإن الباحث عن سبب تسمية سيدنا أبي بكر بن أبي قحافة بالصِّدِّيق يجد أن إطلاق هذا الاسم عليه جاء بعد حادثة عظيمة تؤكد دور الصديق في الحياة الدعوية لصديقه.
فقد روى الحاكم في المستدرك وصححه الذهبي عَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ فَمَنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَمِعُوا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لَأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقَ(5).
ففي هذا الموقف تثبيت للداعية وتأييد له، حين يكون له أصدقاء يصدقونه فيما يقول، ولا يتخذون من غيابه فرصة للحديث السيئ عنه، بل إنهم ينصرونه ويؤيدونه في كل ما يقول، خاصة إذا كان في مجال الدعوة الإسلامية.
3- الحاجة إلى الصديق في السفر:
السفر صعب على النفس لما فيه من المشاق، ولهذا كان الرفيق معيناً عليه، حتى وإن كان الطريق صعباً، فهو مع الصاحب الصالح يتيسر، أما الطريق اليسير فإنه يكون صعباً إذا كان الصاحب فاسداً، ولهذا قيل: «الرفيق قبل الطريق».
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على اتخاذ الرفيق في السفر، حيث روى البخاري عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم، ما سار راكبٌ بليل وحده»(6)؛ أي لما في الانفراد من الأخطار الكثيرة، كما يؤكد اتخاذ الرفيق قوله صلى الله عليه وسلم: «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب»(7)؛ يعني أنه مطمع للشيطان لانفراده، كما يطمع فيه اللص والسبع، فإذا خرج وحده تعرض له(8).
4- أثر الصديق في الثبات على الطريق:
إن الصديق يؤثر في حياة الإنسان أعظم تأثير، فالنفس تميل إلى من يماثلها وتقلده، ولهذا قيل: «الصاحب ساحب».
وقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: «المرءُ على دينِ خليلِه فلينظرْ أحدُكم مَن يُخاللُ»(9)، ومما يبين أثر الصديق في حياة صديقه ما ثبت في الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّما مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ، وجَلِيسِ السُّوءِ، كَحامِلِ المِسْكِ، ونافِخِ الكِيرِ، فَحامِلُ المِسْكِ، إِمَّا أنْ يَحْذِيَكَ، وإِمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وإِمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، ونافِخُ الكِيرِ، إِمَّا أنْ يَحْرِقَ ثَيابَكَ، وإِمَّا أنْ تَجِدَ رِيحًا خَبيثَةً»(10).
فالصديق يقود صديقه ويؤثر فيه، فإذا أعانه على الطاعة فإنه يكون صديقاً في الدنيا وحبيباً في الآخرة في جنة عرضها السماوات والأرض، وإن كان صديقاً فاسداً فإنه يكون عدواً يوم القيامة، ويدل على ذلك ما جاء في قول الله تعالى: (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف: 67).
_______________________________
(1) سيرة ابن هشام (1/ 480).
(2) أخرجه البخاري (2138).
(3) سيكولوجية الأمن النفسي: د. سامية خالد إبراهيم، ص 21.
(4) دراسات في نظريات علم نفس النمو والتعلم: د. فرحان محمد، ص 85.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك (4407).
(6) أخرجه البخاري (2998).
(7) أخرجه أبو داود (2602)، والترمذي (1673) وقال: حديث حسن.
(8) تأويل مختلف الحديث، ص 242.
(9) أخرجه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وأحمد (8398) واللفظ له.
(10) أخرجه البخاري (2101)، ومسلم (2628).