بقليل من التفكر والتأمل، فضلاً عن الدراسة، يمكن أن نرى أن دوافع الاهتمام الصهيوني بالسودان ليست فقط دوافع سياسية وإستراتيجية تهدف لتمزيقه وإغراقه في الصراعات، تكريساً للفرقة والتخلف والتبعية والفقر، وهذا ما يصرح به القادة والمفكرون الصهاينة، حيث إن سوداناً قوياً سيشكل خطراً وجودياً على الكيان المغتصب لفلسطين، ذلك الكيان الذي لن يحيا بأمان واستقرار وتقدم ورفاهية، ولن يكتب له البقاء أصلاً إلا في محيط عربي وإسلامي متخلف متصارع مشرذم، والحق أن هناك دوافع وأبعاداً أخرى دينية توراتية وتراثية يهودية وراء الاهتمام الصهيوني بالسودان، سنحاول أن نناقش بعضها في هذا المقال.
جدل حول محل ميلاد النبي موسى عليه السلام
في عام 2017م أدلى وزير الثقافة السوداني الأسبق أحمد عثمان بتصريحات قال فيها: إن «فرعون النبي موسى سوداني» وقد أثارت تصريحات الوزير جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي، وصلت لحد تعبير الحكومة المصرية عن أسفها حول السجال الناجم عن تلك التصريحات.
وقد ذكر الكاتب السوداني النيل عبدالقادر أبو قرون: إن النبي موسى وفرعون كانا سودانيين ودارت قصتهما الشهيرة بمنطقة في شمال السودان أو بلاد النوبة، مشيراً إلى أنه اعتمد في ذلك التحليل على آيات قرآنية وما قال: إنه اكتشافات أثرية تدعم رأيه.
جاء ذلك في كتاب أبو قرون الذي حمل عنوان «نبي من بلاد السودان.. قراءة مغايرة لقصة موسى وفرعون».
ويدعم هذا الرأي ما ورد في سفر العدد وهو أحد الأسفار التوراتية أن النبي موسى (1526 – 1406 ق. م) تزوج بامرأة كوشية (سودانية) كانت سبباً لتزمر أخويه هارون، ومريم (سفر العدد 12)، وهذا رأي يجد رواجاً في بعض الأوساط الثقافية.
بل إن تفسير الطبري يصف نبي الله موسى نفسه بصفات سودانية بقوله: «وكان موسى عليه السلام رجلا آدم أقنى جعداً طوالاً» (قصص الأنبياء، دار الفكر، ص 290)، وآدم صفة تعنى أسمر.
السودان في التوراة
للسودان حضور ملحوظ في التوراة، حيث ورد السودان ومشتقاته أكثر من 25 مرة، والنص الأصلي، العبري والآرامي، يستعمل كلمة «كوش» للإشارة لبلاد السودان، ولكن النص اليوناني واللاتيني المنقول عن النصين، العبري والآرامي، يترجم كوش إلى إثيوبيا للإشارة إلى السودان الحالي، وكان الإغريق يطلقون على بلاد كوش إثيوبيا، وهي كلمة إغريقية تعني بلاد ذوي الوجوه السوداء أو المحروقة بالشمس، وكوش في التوراة، هو ابن حام بن نوح، وقد سميت باسمه بلاد السودان في العهد القديم، التوراة؛ «لِذلِكَ هأَنَذَا عَلَيْكَ وَعَلَى أَنْهَارِكَ، وَأَجْعَلُ أَرْضَ مِصْرَ خِرَبًا خَرِبَةً مُقْفِرَةً، مِنْ مَجْدَلَ إِلَى أَسْوَانَ، إِلَى تُخْمِ كُوشَ» (حزقيال 29: 10).
يُعلن الله تعالى في هذه النبوءة عن عزمه على إرسال الدمار والخراب على أرض مصر، من مدينة مجدل في الشمال إلى أسوان في الجنوب، وصولًا إلى حدود كوش (السودان).
يلاحظ من النص أن حدود مصر مع السودان كانت عند أسوان، وهي متطابقة تقريبا مع الحدود الحالية.
وجاء في «سفر إشعياء 433»: «لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ، مُخَلِّصُكَ جَعَلْتُ مِصْرَ فِدْيَتَكَ، كُوشَ وَسَبَا عِوَضَكَ»، وجاء في «سفر عاموس 79»: «أَلَسْتُمْ لِي كَبَنِي الْكُوشِيِّينَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟»، وقال «سفر ناحوم 3:9»: «كُوشٌ قُوَّتُهَا مَعَ مِصْرَ»، وجاء في «سفر إشعياء 18 :1»: «فأبحر الملك طهارقة خلفاً لوالده بعنخي إلى منطقة الهلال الخصيب لحماية أورشليم من الآشوريين» (بعنخي وطهارقة فرعونان كوشيان حكما وادي النيل حتى فلسطين).
السودان وهيكل سليمان
يحظى السودان باهتمام خاص من بعض الجماعات الدينية اليهودية التي ترى أن أجزاء واسعة من السودان هي التي عاش فيها نبي الله موسى، وأن مولده وإلقاؤه في اليم والتقاطه كان في السودان، وكذلك كان لقاؤه الرجل الصالح في ملتقى النيلين الأزرق والأبيض.
وهناك صخرة عظيمة تدل على موقع هذا اللقاء، يزورها اليهود كل عام، فضلاً عن اهتمام هذه الجماعات بشرق السودان، لأنها تعتقد أن نبي الله موسى كلم الله في بعض جبالها (علماً بأن الجماعات اليهودية لا تجتمع على هذا الرأي، كما أن غالبية المسلمين لا يوافقونه).
وقد شاعـت أنباء عن عمليات قطع طالت جبلاً في هذه الولاية منذ حقبة حكم جعفر نميري، واستمرت حتى بداية الألفية الجديدة، وتم تصدير حجارته إلى دولة أوروبية، ومن تلك الحجارة، تم قطع وتجهيز مكونات هيكل سليمان البديل، الذي تقوم دولة الاحتلال بتجهيزه حالمة بأن يحل محل المسجد الأقصى، وقد تم ترحيل هذه القطع إلى داخل فلسطين المحتلة، لأن الأحكام التي استنبطها الحاخامات تقتضي بناء الهيكل من حجارة مباركة وفقاً للأحكام التوراتية.
وهناك كتابات صهيونية تزعم وجوداً تاريخياً لليهود في السودان وتضخمه استناداً إلى تفسيرات دينية لبعض ما جاء في التوراة من نصوص، فقد ورد في العهد القديم «الإصحاح 15/18»: «لقد منحت ذرياتكم هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات»، ويجري تفسير نهر مصر على أنه نهر النيل، وبذلك تدخل أغلب السودان في المنطقة الواقعة بين النيل والفرات، أرض بني إسرائيل المزعومة.
وهكذا نستطيع أن نلمح أن وراء الاهتمام الصهيوني بالسودان أهدافاً أكبر وأعمق من مجرد إغراق السودان في الأزمات والصراعات حتى يبقى ضعيفاً فقيراً متخلفاً غير مؤثر في محيطه العربي، رغم إمكاناته العملاقة وموقعه الإستراتيجي المتميز، فوراء الاهتمام الصهيوني في الشأن السوداني والانغماس في التآمر عليه أهداف أخرى أقلها إيجاد موطئ قدم للكيان في السودان، والسيطرة على بعض أجزائه اعتماداً على نصوص وتفسيرات تاريخية وتوراتية مشكوك في أغلبها.
_________________________
1- القاهرة ترد بعد ضجة حول «سودانية فرعون موسى».
2- كتاب «السودان عبر القرون» للدكتور مكي شبيكة.
3- السودان في نصوص الكتاب المقدس.
4- كتاب «نبي من بلاد السودان.. قراءة مغايرة لقصة موسى وفرعون»، النيل عبدالقادر أبو قرون.