منذ استقلالها عام 1971م، وهناك صراع محتدم بين شعبها وقادة حزب «عوامي» الحاكم؛ لأنهم وضعوا قانوناً عام 1972م لتعيين المؤيدين لهم في الوظائف الحكومية ذات العائد المادي الكبير، بحجة أنهم «أبناء أبطال حرب الاستقلال».
بسبب هذا القانون الغريب الذي خصص نسبة كبيرة من الوظائف الحكومية للمحاربين القدامى وأسرهم (30%)، والنساء (10%)، والأقليات العرقية خاصة الهندوس (5%)، تظاهر الطلاب وخريجو الجامعات عدة مرات في سنوات مختلفة مطالبين بالعدالة، وأن يكون التوظيف بحكم الخبرة والكفاءة لا الواسطة وحجة أنهم أبناء شهداء ومحاربين.
دعم هذه المطالب الشعبية قادة حزب الجماعة الإسلامية البنغالي، الذي طاردته السلطة القمعية منذ الاستقلال وبدأت في إعدام قادته منذ عام 2013م وحتى الآن؛ بدعوى أنهم كانوا –حين كانت باكستان موحدة شرقية وغربية- يرفضون استقلال بنجلاديش لعدم تفتيت وحدة المسلمين؛ لذا استهدفتهم السلطات هم والمعارضين والطلاب الذين رفضوا الفساد والمحسوبية الأول، فانتقم منهم النظام الدكتاتوري، وخاصة شيخة حسينة واجد التي تحكم البلاد منذ 20 عاماً، وشكلت محاكم خاصة للحكم بإعدامهم؛ لأنهم رفضوا فصل بنجلاديش عن باكستان، واعتبروا هذا تفتيتاً للوحدة الإسلامية للبلدين ومؤامرة هندية عالمية، فتم اعتبارهم أعداء و«مجرمي حرب»!
ثورة شاملة
هذه المظالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية دفعت طلاب بنجلاديش للتظاهر مجدداً منذ بداية يوليو 2024م، مطالبين بإلغاء قانون توزيع الوظائف على أنصار الحزب الحاكم والعسكريين بحجة أنهم أبناء المحاربين القدامى؛ حيث يعاني قرابة 400 ألف خريج سنوياً في المنافسة على 3 آلاف وظيفة حكومية، وهناك 18 مليون شاب عاطل عن العمل، فيما تظهر فضائح وقضايا فساد سنوياً للجنرالات وأعضاء الحزب الحاكم ويجري إعدام وقتل المعارضين.
الطلاب تظاهروا مطالبين بإلغاء قانون توزيع الوظائف على أنصار الحزب الحاكم والعسكريين
وجاء تصدي نظام الدكتاتورية حسينة واجد للطلاب بعنف وإطلاق الرصاص عليهم حتى سقط قرابة 115 – 150 شاباً شهيداً، وفق تقديرات مختلفة ومئات المصابين، ليشعل ثورة، ولا يكتفي الطلاب بالمطالبة بإلغاء قانون التوظيف الظالم، ولكن المطالبة بإسقاط نظام الحكم ورحيل حسينة واجد، وهي رئيسة حزب «عوامي» (الشعب) الذي أسسه والدها مجيب الرحمن عام 1949م في الهند، وكان أداة وذراعاً للهند التي دعمته في تدمير الوحدة الإسلامية مع باكستان، وقام بفصل بنجلاديش عن باكستان عام 1971م.
وقد وصفت «مجموعة الأزمات الدولية» المظاهرات بأنها التحدي الأكبر لنظام رابطة عوامي (حزب الشيخة حسينة) منذ وصوله إلى السلطة، وقالت صحيفة «الغارديان»: إن الاحتجاجات تحولت إلى تعبير أوسع عن السخط على الحكم الاستبدادي لحسينة، ووصف مجلة «Muslim matters» ما يجري بأنه أشبه بـ«الربيع العربي» الذي امتد للبنغال، مشيرة إلى أن ما يقلق سلطات بنجلاديش أن الجماعة الإسلامية تتشابه أفكارها مع جماعة الإخوان المسلمين وتستقي فكرها من حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، وقالت: إن شيخة حسينة، رئيسة وزراء بنجلاديش الحالية، تخوفت من الثورات في العالم العربي؛ لذا بادرت بشن حملة قمعية لمنع الثورة في بلادها، وإن هذا سبب قيامها بإعدام العلماء.
وتوقعت تقارير غربية أن ترحل حسينة، التي تحكم بنجلاديش بالحديد والنار، وتتحالف مع متعصبي الهندوس ضد خيارات المسلمين، وتعدم العلماء بدم بارد، ويسقط حكمها، مؤكدة أن ثورة الطلاب تحولت من رفع مطالب اجتماعية وتوظيفية إلى مطالب سياسية وحقوقية تطالب بوقف تزوير الانتخابات، ورحيل حسينة بسبب حرمانهم من الديمقراطية الحقيقية، وتحول البلاد لحكم عائلي لمن فصلوا بنجلاديش عن باكستان.
إعدام 5 علماء
عقب استقلال بنجلاديش، تم تشكيل ما سُمى «المحكمة الدولية لجرائم بنجلاديش»، عام 2010م، بحجة محاكمة «مجرمي الحرب» الذين عارضوا استقلالها عام 1971م، وكان المستهدف منها أساساً قادة الجماعة الإسلامية ومعارضين آخرين.
هؤلاء العلماء الذين تزعموا العمل الإسلامي ضمن صفوف حزب الجماعة الإسلامية قبل انفصال بنجلاديش (باكستان الشرقية) عن دولة باكستان عام 1971م، أعدمهم النظام القائم في بنجلاديش عبر بوابة محكمة خاصة أنشأها لهذا الغرض بحجة أنهم أعداء للاستقلال.
النظام الدكتاتوري تصدى للطلاب المتظاهرين بعنف وإطلاق الرصاص حتى سقط عشرات الشهداء
في البداية، أخر النظام القمعي محاكمة وإعدام العلماء خشية رد الفعل الشعبي، لكن مع تصاعد نشاطهم المعارضة للسلطة القمعية، بدأت السلطات مع حلول عام 2013م في تنفيذ أحكام الإعدام التي طالت حتى الآن 5 من كبار علماء الجماعة الإسلامية في بنجلاديش، وكانت الجماعة الإسلامية قد سعت لتوحيد شرق وغرب باكستان حين ظهرت دعوات استقلال بنجلاديش في شرق باكستان من جانب مجيب الرحمن، والد شيخة حسينة، فحرض الهندوس ضدها.
وخلال حرب تحرير بنجلاديش عام 1971م، عارضت الجماعة الإسلامية في شرق باكستان (بنجلاديش الحالية) الاستقلال على أساس الوحدة الإسلامية والخوف من الحرب العنيفة، محذرين من دعم الهند وتمويلها الكامل للانفصال.
وكان من أبرز الشخصيات التي اعتقلت وأعدمت أو توفيت داخل السجن من قادة الجماعة الإسلامية حتى الآن 7 من كبار العلماء؛ منهم 5 تم إعدامهم شنقاً، واثنان توفيا داخل السجن قبل الحكم بإعدامهما، أول هذه القيادات عبدالقادر ملا الذي كان أول قيادي من حزب الجماعة الإسلامية يتم إعدامه في ديسمبر 2013م على خلفية اتهامات بالتورط في جرائم قتل إبان حرب الانفصال عن باكستان عام 1971م، وحكم على الملا في البداية بالمؤبد، لكن الحكم لم يرض النظام القائم فاضطر إلى تعديل القانون بما يسمح للنظام بالطعن في الأحكام النهائية للمحكمة وإعدامه منع جنازته وقتل بعض من شاركوا في تشييعه.
وكان القيادي الثاني الذي تم إعدامه في نوفمبر 2015م هو علي إحسان محمد مجاهد، الذي ترأس منصب الأمين العام لحزب الجماعة الإسلامية، وسبق أن شغل منصب وزير في الحكومة الائتلافية بين حزبي الجماعة الإسلامية وحزب بنجلاديش القومي بين عامي 2001 و2007م، ومن الاتهامات المفبركة التي وجهت له وأيدت الحكم بإعدامه، «قتل مثقفين هندوس خلال حرب الانفصال عن باكستان عام 1971م».
والثالث هو الشيخ محمد قمر الزمان، القيادي بحزب الجماعة الإسلامية، الذي حكم عليه بالإعدام يوم 9 مايو 2013م، بتهمة المشاركة في حرب الانفصال عن باكستان والتسبب في مقتل العشرات، ضمن تلفيق التهم للخصوم السياسيين، وتم تنفيذ حكم الإعدام في 11 أبريل 2015م بالسجن المركزي بالعاصمة دكا.
وكان الشهيد الرابع من قادة الجماعة الإسلامية الذي أعدمته السلطة الدكتاتورية الموالية للهند في بنجلاديش هو مطيع الرحمن نظامي الذي كان معارضاً لانفصال بنجلاديش عن باكستان، واختير رئيساً لحزب الجماعة الإسلامية عام 2001م، وعين وزيراً للزراعة عام 2001م، وفي عام 2003 اختير وزيراً للصناعة حتى 2006م.
ثورة الطلاب تحولت من رفع مطالب اجتماعية وتوظيفية إلى مطالب سياسية ورحيل حسينة واجد
واعتقل نظامي عام 2011م بتهمة تهريب السلاح إلى الهند! وفي يناير 2014م صدر عليه حكم بالإعدام، كما صدر حكم آخر بإعدامه في أكتوبر 2014م بدعوى ارتكاب «جرائم إبادة» خلال الانفصال عن باكستان، ودفع شموخ أمير الجماعة الإسلامية في بنجلاديش ويقينه أنه على طريق الحق لرفض طلب العفو من رئيس الدولة، فتم إعدامه، ونفذت السلطات حكم الإعدام في 10 مايو 2016م وسط ترحيب أمريكي بما قيل: إنه «تنفيذ العدالة ضد من ارتكبوا الفظائع ضد الشعب البنغالي»!
وقد وصفت الجماعة الإسلامية في بيان حكم الإعدام على نظامي بأنه أملته حسابات سياسية للنظام القائم الذي يريد التخلص من قيادات التنظيم القوي بالبلاد وتشتيته من خلال الإعدامات والاعتقالات التي لا تكاد تنتهي.
والشهيد الخامس هو مير قاسم علي، عضو اللجنة التنفيذية المركزية لحزب الجماعة الإسلامية، وهو رجل أعمال بارز ويدير شركات في مجالات متعددة، وقد اعتقل في 17 يونيو 2012م، وأدين بارتكاب «جرائم حرب»، وحكم عليه بالإعدام في 2 نوفمبر 2014م، وأيدت المحكمة العليا إعدامه في 8 مارس 2016م.
محاكمات سياسية
وانتقدت المعارضة محاكمات قيادات الجماعة الإسلامية ووصفتها بأنها محاكمات سياسية، كما دعت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، في بيان لها، السلطات البنغالية إلى إلغاء عقوبة الإعدام الصادرة على مير قاسم علي، لكن نظام الدكتاتورية حسينة نفذ حكم الإعدام شنقاً بحقه، في 3 سبتمبر 2016م، في سجن مشدد الحراسة على مشارف العاصمة دكا بعدما رفض الشهيد تقديم طلب استرحام لحسينة بالعفو عنه.
وكان الشهيد السادس هو غلام أعظم، أمير الجماعة الإسلامية، الذي اعتقل يوم 11 يناير 2012م وعمره وقتها كان نحو 89 عاماً، ومع هذا أصدرت المحكمة يوم 17 يوليو 2013م حكماً بالسجن عليه 90 عاماً بالتهمة نفسها التي أعدم لأجلها رفقاؤه، وهي ارتكاب «جرائم حرب» أثناء حرب انفصال بنجلاديش عن باكستان.
وكانت الأدلة التي قدمتها النيابة العامة في حق غلام أعظم عبارة عن قصاصات من جرائد يومية كانت تصدر عامي 1971 و1972م وشهادات شهود قالوا: إنهم «سمعوا» دون أن يروا أو يشهدوا بشيء حقيقي؛ ما يؤكد فبركة المحاكمات، وقد لقي ربه داخل المعتقل يوم 23 أكتوبر 2014م بدلاً من إعدامه مثل رفقائه.
السلطات بدأت عام 2013م تنفيذ أحكام إعدام بحق 5 من كبار علماء وقادة الجماعة الإسلامية
والشهيد السابع هو أبو الكلام محمد يوسف الذي يحمل لقب «ممتاز المحدثين»، وهو أرفع لقب لعلماء الحديث في بنجلاديش، وقد انضم إلى الجماعة الإسلامية قبل الانفصال عن باكستان، وترأس فرعها بمدينة خولنا بين عامي 1956 و1957، واختير لاحقاً نائباً لأمير الجماعة الإسلامية لباكستان الشرقية (بنغلاديش حالياً) وظل في هذا المنصب حتى قيام بنجلاديش، وبعد الانفصال، شغل أبو الكلام منصب الأمين العام للجماعة الإسلامية لأربع فترات، ثم عين لاحقاً نائباً لأمير الجماعة الإسلامية.
وبعد نحو 40 عاماً من أحداث عام 1971م، أصرت السلطة الحاكمة في بنجلاديش على اعتقال القيادات البارزة في الجماعة الإسلامية ومحاكمتهم بتهم المشاركة في ارتكاب جرائم حرب إبان حرب الانفصال، وكان الشيخ أبو الكلام من بين المعتقلين في مايو 2013م، وتوفي في 9 فبراير 2014م داخل مستشفى نقل إليه من السجن بعد تدهور حالته الصحية، حيث كان يعاني من عدة أمراض مزمنة.
وتعد الجماعة الإسلامية في بنجلاديش من أكبر الأحزاب السياسية حيث تأسست في البداية في باكستان الكبرى (باكستان وبنجلاديش) قبل استقلال الأخيرة، ويعود تأسيسها في 16 أغسطس 1941م، حين اجتمع 75 باكستانياً في لاهور من مختلف أنحاء البلاد بقيادة أبي الأعلى المودودي، وأسسوا الجماعة الإسلامية، وانتخبوا المودودي أميراً لها، ومع إعلان قيام دولة باكستان في 28 أغسطس 1947م، انتقل المودودي مع زملائه إلى لاهور حيث أسس مقر الجماعة الإسلامية بها.
وفي عام 1971م استقلت بنجلاديش عن باكستان عقب حرب استمرت شهوراً بين الانفصاليين والحكومة والجيش الباكستاني، وكانت الجماعة الإسلامية من مؤيدي الوحدة وعدم انفصال بنجلاديش عن باكستان؛ ما أدى للبطش بها.