بالرغم من أن جرائمهم تخطت كل الحدود الحمراء والسوداء، فلم يعد مستغرباً على أي جريمة يقدمون، وبرغم من قتلهم أكثر من 11 ألف امرأة حامل في جنينها ليكون القتل مضاعفاً بإزهاق 22 ألف روح دون جريرة ودون وجود خطر منهن ودون وجودهن في صفوف المحاربين، وبالرغم من شطب أكثر من 500 عائلة من سجلات الأحياء؛ مما يعني الآلاف من الأجداد والأبناء والأحفاد وأبناء العمومة والخالات والأخوال بأبنائهن وأبنائهم، وبرغم تجاوز عدد الشهداء 40 ألفاً في أشرس مجازر مروعة عرفها التاريخ الحديث غير المصابين والعدد في ازدياد كل يوم، بل كل ساعة.
بالرغم من كل هذا؛ فإن الجريمة هذه المرة تخطت كل هذا، ولست أدري كيف تمر مرور العابرين فلا ينتفض العالم لها، كيف لم تنهد الجبال هداً، وتزلزل الأرض من تحت أقدام البشر؟! كيف لم تتوقف حركة الزمن لتوقف قتل طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة لا يعرف من كلمات البشر سوى بضع كلمات «بدي ماي، بدي آكل» إن هو أصابه العطش أو الجوع؟! أين مدعي الإنسانية وما يسمى بمنظمات حقوق الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة التي تنتفض من أجل امرأة تريد التخلي عن مهمتها في تربية أبنائها وتخرج لتناطح الرجال في سوق العمل حقوق المرأة؟!
طفل لا يعرف من سلوك البشر سوى المداعبة فحسب أن الكلب الذي سلطه عليه جنود الاحتلال في لحظة فقدوا فيها كل ما يمت للإنسانية بصلة، فيصرخ بكلمات لم تسعفه معارفه على النطق بغيرها «سيبني حبيبي خلاص»، فتنهشه قسوة بشر قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وأما هم، فلا ارتدعوا، ولا هبطوا، ولا كان لهم على البشرية من فضل سوى الجنون والإجرام والبشاعة في أحط صورها، لم تهز أحدهم تساؤلات عين الطفل التي لا تفهم، ولا تعي، ولا تدرك سوى شعوره بالألم الغريب الذي لا يعرف له سبباً، فما يعرفه عن الكلاب أنها ودودة، لم يعرف أن هناك نوعاً آخر من الحيوانات لا يتأثر بما يتأثر به البشر، فكانوا أشد شراسة من كل حيوان عرفناه يوماً.
قضايا إنسانية مروعة
محمد بهار، طفل فلسطيني وإن أطلقوا عليه مجازاً شاباً يافعاً أسوة بزملائه الذين هم في عمر الشباب، لكنه بمقاييس الطب والإنسانية والعرف طفل، مصاب بمتلازمة داون والتوحد، يعتمد على أهله في تلبية كافة احتياجاته الإنسانية، هو لا يمثل خطراً على هرة تمر بالطريق، فلماذا يتم قتله بتلك الصورة البشعة؟! وعلى ماذا يتم الانتقام منه ليترك في بيت أهله أشلاء ممزقة؟! ماذا مثَّل محمد بهار للإنسانية من خطر لتتركه يموت تلك الميتة الإجرامية؟! لماذا لم تنتفض منظمات الصليب الأحمر وحقوق الطفل بينما أخوه يرسل استغاثات لهؤلاء لينقذوه وهو بين أيديهم يعذب على ما لم يفعل، يعذب ولا يدري لم هذا الألم الذي يصيبه؟! يعذب وضمير العالم يتابع، ثم يزرف بضع كلمات بلا معنى، ثم يعاود النسيان في انتظار جريمة أخرى تكاد تتكرر يومياً على أرض غزة، يعذب وضمير ملياري مسلم مشغولون بلقمة عيش يهرولون خلفها وكأنهم مخدرون، أو غائبون عن الوعي لخطب فوق عقولهم.
وجريمة قتل بهار ليست الجريمة الإنسانية الوحيدة في تلك الحرب المجنونة، ففي كل بيت من بيوت غزة مذبحة يندى لها جبين البشر، ولسوف تخجل منها الإنسانية طويلاً حين تنكشف الحقائق كاملة، وجرائم الحرب اليومية لم تبدأ مع حرب «طوفان الأقصى»، وإنما كان هذا ديدن المحتل مع كل ما هو فلسطيني على أرض فلسطين، وليست وحدها المقاومة التي تتعرض لما يشبه الإبادة أو أشد منها، إذ يتعرض أهل غزة للقتل بالتجويع، والقتل للمرضى والمصابين وتركهم بلا دواء، القتل للأطفال والأمهات لعدم توفر أدنى مقومات الحياة الإنسانية من بيوت آدمية تحميهم من حر الصيف أو برد الشتاء وتركهم بالخيام تحت زخات الموت العمد على مدار الساعة بحرق الخيام بمن فيها، ودك المستشفيات على من فيها، وتفجير البيوت بمن فيها دون سابق إنذار ودون وجود أماكن آمنة، بل يغرر العدو بالمدنيين لينزحوا لمكان ما ثم يتم قصفه، فلم تسلم خيام، ولم تسلم مدارس «الأونروا»، ولم يسلم شبر في غزة يذهب إليه بريء من الحرب.
ليؤكد كريج مخيبر، مدير مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في نيويورك، برسالة، في 28 أكتوبر الماضي، إلى مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك قائلاً: إننا نشهد الإبادة الجماعية تتكشف أمام أعيننا، ولم تتمكن المنظمة التي نخدمها من إيقافها.
وأضاف أنه عاش في غزة وعمل في مجال حقوق الإنسان للأمم المتحدة في التسعينيات، وكان شاهداً على ما يرتكب الاحتلال من جرائم حرب ضد الإنسانية، واتهم الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الأوروبية بتوفير غطاء سياسي ودبلوماسي للفظائع التي يرتكبها الكيان.
وتتوالى شهادات مسؤولين دوليين حول عمليات الإبادة المنظمة التي يرتكبها المحتل في حق صاحب الأرض، وما الجرائم التي شهدناها عياناً عنا ببعيدة من قصف المستشفيات بشكل ممنهج ليقتل الجرحى عمداً في تحدٍّ واضح ومباشر لكافة المواثيق الدولية التي لم تستطع الأمم المتحدة تنفيذها أو فرضها بأي وسيلة لحماية الإنسان كإنسان.
مواثيق الطفل في الأمم المتحدة
وهناك الكثير من الاتفاقيات المعلنة لحماية حقوق الطفل والأم في كافة الظروف الحياتية الاستثنائية ومنها الحروب، فتنص اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة التي وقعت معظم دول العالم عليها على 42 بنداً في صالح الأطفال دون تمييز بينهم لجنس أو دين أو لون، وأختار بندين من بنودها وهو ما يخص قضيتنا:
1- البند رقم (23) وهو ما يخص الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة وهذا نصه: «من حق كل طفل ذي إعاقة أن يعيش أفضل حياة ممكنة في المجتمع، وعلى الحكومات إزالة جميع العقبات أمام الأطفال من ذوي الإعاقات لكي يصبحوا مستقلين ويشاركوا بفاعلية في المجتمع».
2- البند رقم (38) الخاص بالحماية أثناء الحروب، وهذا نصه: «يحق للأطفال الحصول على الحماية أثناء الحروب، ولا يجوز إشراك الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة في الجيش أو في الحروب».
وفي اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة التي اعتمدت بتاريخ 14 يوليو 2021م، في المادة رقم (11)، حالات الخطر والطوارئ الإنسانية التي تنص على الآتي: تتعهد الدول الأطراف وفقاً لمسؤولياتها الواردة في القانون الدولي، بما فيها القانون الإنساني الدولي وكذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان، باتخاذ كافة التدابير الممكنة لضمان حماية وسلامة الأشخاص ذوي الإعاقة الذين يوجدون في حالات تتسم بالخطورة، بما في ذلك حالات النـزاع المسلح والطوارئ الإنسانية والكوارث الطبيعية.
ولسنا هنا في حاجة لتقديم المزيد من القوانين والمعاهدات والتعهدات الدولية التي تحمي حقوق الطفل والأم عامة في حالة الحروب، وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة على وجه الخصوص، فلم يعد هناك معنى لقوانين لا تملك المؤسسات الدولية تطبيقها أو حمايتها أو ضمان تطبيقها ولو جزئياً.
لقد فقدت تلك المواثيق صلاحيتها بمجرد عدم قدرتها على تفعيلها وإلزام الجانب المعتدي أو طرفي النزاع على حماية هؤلاء، ولننتظر المزيد من محمد بهار يموت أمام أعيننا تمزيقاً بأنياب الحيوانات أو بقنبلة تسقط على خيمة فوق طفل جائع، أو في مستشفى يئن من انعدام الخدمات الإنسانية.
لقد أصبح لزاماً على العالم كله أن يتحرك بصورة مختلفة، صورة تحسن التعامل مع الاحتلال بمنع إمدادات السلاح التي تقدم يومياً كجسر مفتوح وغير مشروط ليوقف ذلك العبث، فالجميع مدان، إلا أن يتحرك لوقف تلك الجرائم المروعة.