في عالم مضطرب يموج بمختلف الأفكار والشهوات والملهيات، تبحر الأسرة المسلمة في حذر شديد، لتحفظ هوية أفرادها وتثبت أقدامهم على صراط الله القويم الذي به سعادتهم في الدنيا والآخرة، ومن أكبر التحديات الفكرية التي تواجه الأسرة المسلمة اليوم ملف الإلحاد الجديد.
ذلك الإلحاد الصريح الشرس الذي يدعي أنه يتكئ على العلم التجريبي لنقد الدين، ويعتبره أصل الشرور ومنبعها، ويزعم أن الواجب الأهم اليوم هو العمل على استئصاله من العالم، فلا يجوز التسامح معه ولا مع أتباعه بأي شكل من الأشكال، ولا فرق عنده بين المتدين المعتدل وغيره، فكلهم ضد العلم والعقل وحركة الحياة.
هذا الإلحاد الجديد، الذي يتبناه أمثال ريتشارد دويكنز، ووسام هاريس، وكريستوفر هيتشنز، ودانيال دينيت.. وغيرهم، يناقش الأصول الدينية الكبرى من حيثية تدعي الموضوعية والعلمية والعقلانية، ويرفض تلك النظرة الإلحادية المحايدة تجاه المسائل الغيبية، ويرى أن من واجبه طرح تلك الأصول الدينية للتحليل العلمي والموضوعي، وتفنيدها ومهاجمتها، بل والسخرية منها والاستهزاء بها، وذلك لهدم قداستها ومكانتها في عقول وقلوب المؤمنين.
وأمام هذه النزعة العدائية المتطرفة تجاه الدين، تقف الأسرة المسلمة لتواجه خطر تسلل هذا النوع من الإلحاد إلى البيوت عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، في قرية عالمية صغيرة لا تعرف الحدود الجغرافية والثقافية، وتبحث عن طوق النجاة الذي يقدم لها الترياق الأحكم والأسلم لمواجهة مثل هذه التحديات.
إن أهم ما تحتاجه أسرنا المسلمة اليوم في مواجهة هذا التحدي تعزيز الثقافة الدينية القائمة على الحوار والنقد، والحوار المفتوح الآمن الشفاف، الذي يدلي فيه كل فرد من أفراد بالأسرة بما عنده من أفكار يتبناها أو سمعها دون خوف أو غموض، حتى يسأل عن معناها وعن دليلها وعما يعارضها من قناعات، فيشارك أسرته الصغيرة أفكاره وشكوكه، لتوضع على مائدة الحوار والبحث العلمي المنصف لغربلتها ونقدها.
إن الإسلام كدين رباني عالمي خاتم لا يخشى من الحوار العلمي العقلاني الموضوعي، بل إن كتابه الأقدس هو الذي أمر بالعلم والبرهان كطريق عدل للوصول إلى حقائق الكون والإنسان والحياة، كما قال الله تعالى: (قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ) (البقرة: 111)، وقال عز وجل: (وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ) (الإسراء: 36)، بل إن القرآن الكريم يبشر المؤمنين أن حقائق العلم لن تزيد حقائق الإيمان إلا قوة ووضوحاً وحجية، كما قال تعالى: (سَنُرِيهِمۡ ءَايَٰتِنَا فِي ٱلۡأٓفَاقِ وَفِيٓ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ) (فصلت: 53).
بهذه الروح الواثقة تستقبل الأسرة المسلمة تلك الأفكار الوافدة لتضعها على مائدة الحوار الآمن الشفاف كما سميناه، لتحول ذلك الخطر الموهوم إلى فرصة، فرصة لبيان حقائق الدين وما فيه من حِكَم ومصالح توافق العقل والفطرة والحكمة، على صعيد الفرد وعلى صعيد الجماعة.
ليس بالضرورة أن تجد الأسرة جوابها الناجز على كل شبهة، ولكن هذه الطريقة من التفاعل مع هذه الشبهات هي التي تفتح باب الوصول إلى جواب، إما عن طريق البحث المباشر أو باستشارة المختصين في كل مجال، وبنجاح الأسرة في الجواب على مجموعة من هذه الشبهات تتأكد القناعة الراسخة بالدين الإسلامي وحقائقه، ويُغلق معه باب الوسواس الخناس.
وكما يزعم الإلحاد الجديد حرصه على العلم والعقل، فعلى الأسرة المسلمة أن تهتم بالخطاب الشرعي المستند إلى العلم والدليل، الخطاب الذي يقدم أحكام الإسلام للناس بطريقة عقلية منطقية مترابطة، تراعي بيان الحِكَم والمقاصد والغايات والمآلات كما هو مؤصل في علم أصول الفقه وعلم المقاصد، فكل الأحكام الشرعية ترجع إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال كما نص عليه العلماء، وواجبنا اليوم أن نربط كل حكم شرعي بالمقصد الذي يرتبط به، حتى تظهر المنظومة التشريعية كما أرادها الله تعالى لها شاملة كاملة مترابطة، تلبي حاجة الإنسان وتحقق مصلحته؛ فرداً وجماعة.
وهذا الحوار الأسري الفعال المتكئ على العلم والإقناع يحتاج إلى مجموعة من الدعامات الأساسية الأخرى لكي يحقق نتائجه المرجوة، كتوفير مكتبة جذابة داخل البيت تُعنى بتقديم الثقافة الإسلامية الصحيحة من مصادرها العلمية المعتبرة، تكون في متناول يد الجميع، ويجد فيها كل فرد من أفراد الأسرة ضالته وحاجته، كما يحتاج إلى لقاءات أسرية دورية تعزز ترابط الأسرة ومحبتها، وتزيل تلك الحواجز المصطنعة التي فرضتها مواقع التواصل الاجتماعي حتى شعر كل فرد في الأسرة وكأنه يعيش في جزيرة منفصلة عن باقي أفراد عائلته.
إن أفكاراً كأفكار الإلحاد الجديد كشفت عن مقدار الضعف والخلل في ثقافة الفرد المسلم، وفي ثقافة الأسرة والمجتمع، وعلى الأمة الإسلامية، التي أراد الله تعالى لها أن تكون حاملة للنور الإلهي الأخير لكل البشرية، أن تعيد النظر في مناهجها الثقافية ومؤسساتها التعليمية على كل الصعد، حتى تكون تحقق الشهود الحضاري المطلوب منها في العالمين؛ (وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّة وَسَطا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ) (البقرة: 143).