العفو؛ هو التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه، والصفح: إزالة أثر الذنب من النفس.. والعفو عن الآخرين ليس بالأمر الهين؛ إذ له في النفس ثِقل لا يتم التغلب عليه إلا بمصارعة حب الانتصار، والانتقام للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياء الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها.
قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران: 133 – 134).
بين الله سبحانه صفات المتقين الذين أعد لهم جنته، وذكر منها صفة العفو، فقال: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ).
قال السعدي في تفسيره: (يدخل في العفو عن الناس العفو عن كل من أساء إليك بقول، أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى: 40).
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التغابن: 14). فمن عفا، عفا الله عنه، ومن صفح، صفح الله عنه، ومن غفر، غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره.
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله).
وعن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: (جاء رجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت، فلما كان في الثالثة قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)، وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: (أفضل العفو عند القدرة)، وقال ابن عباس، رضي الله عنهما: (ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًا).
وفي تأديب الله لرسوله بهذا الأدب أنزل الله عليه في المرحلة المكية قَولَه: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (الحجر: 85 – 86)، فكان يقابِلُ، صلى الله عليه وسلم، أذى أهل الشرك بالصفح الجميل، وهو الصفح الذي لا يكون مقرونًا بغضب، أو كبر، أو تذمر من المواقف المؤلمة، وكان كما أدبه الله تعالى، ثم كان يقابل أذاهم بالصفح الجميل، ويعرض قائلاً: سلام!
ومن الوسائل المعينة على اكتساب العفو والصفح:
العلم بعظيم الثواب الذي جعله الله للعافين عن الناس، ومجاهدة النفس على التحلي بمكارم الأخلاق، ومعرفة فوائد العفو، وآثاره الطيبة في الدنيا، وسلامة الصدر من الحقد، والغل، والرغبة في الانتقام، وأن يعلم أن الذي يعفو يتعبد لله بمقتضى اسم من أسمائه وصفة من صفاته.. والله سبحانه وتعالى يحب أسماءه وصفاته التي منها: العفو، ويحب من خلقه من تخلق بها، وأن يعلم أنه لا يخلو إنسان من زلة، فليوطِّن نفسه على ذلك، وليقابل الزلات بالعفو، والصفح.
قال الشاعر:
سامح صديقك إن زلت به قدم فليس يسلم إنسان من الزلل
وأن يعامل الناس بما يحب أن يعاملوه به؛ فليعف عن مسيئهم كما يحب أن يعفى عنه إن أساء.
فما أحوجنا إلى هذا الخلق العظيم ففيه الطمأنينة والسكينة، وفيه العزة وشرف النفس، وبه تكتسب الرفعة والمحبة عند الله، وعند الناس.
فتعافوا بينكم عباد الله، وتجاوزوا عمّن أساء إليكم؛ اجعلوا العفو، والصفح شعاركم، وخلقًا لكم في بيوتكم، وشوارعكم، ونواديكم، وأسواقكم.
__________________________________________
نقلً عن صحيفة “الشرق” القطرية.