إننا بشر، نعيش بين بشر مختلفي الأذواق والعقول والقلوب والمذاهب والمشارب والأهواء والتحيّزات ولا شكّ أنّ أيًّا منّا سيكون موضع انطباع ما، من شخص ما، في موقف ما، فلكلّ من سيتعامل معنا ظروف ستفرض عليه فرضًا أن يحمل انطباعًا ووجهة نظر وغالبًا ما يبقى المرء أسير ذلك الانطباع الأول حينًا من الدهر إن لم تستجد ظروف تسهم في تغيير انطباعه أو تعديله.
قد يكون الانطباع الأوّل لمن يتعامل معك سلبيًّا أو إيجابيًّا وفقًا لعوامل كثيرة تكتنف الموقف وترتبط بذلك الشخص المتعامل ارتباطًا وثيقًا لأنها تدور حول حالته النفسية المزاجيّة خلال ذلك الموقف، ودرجة الثقافة والتهذيب والصقل التي نالها، والدرجة الإيمانية والروحيّة التي بلغها، وصولاً إلى قدر النقود التي في جيبه وقت اللقاء!
وبالقطع لا يمكن لأحد كائنًا من كان أن يوجّه انطباعات الناس ووجهات نظرهم حين يعامل بعضهم بعضًا في مواقف معيّنة، والتأثير على ما يمكن أن يحملوه من مشاعر، أو يقولوه من وجهات نظرهم في أحدنا إلا على نحو محدود للغاية، وبشقّ الأنفس.
رغبة من ضروب المستحيل
سأل أحد الصالحين شيخه يومًا: كيف لي أن أرضي الناس؟! فأجاب بما يشير أن ذلك ضرب من ضروب المستحيلات كالغول والعنقاء والخلّ الوفي كما كان يقال قديمًا، وحدّد له سبل ذلك في ثلاث أحلاها مرّ يكاد يكون خيالاً؛ أوّلها: ألا يأخذ من مالهم شيئًا، وإن عمل لهم بلا مقابل، ولو على حساب وقته وصحّته، وثانيها: أن يعطى الناس من ماله ما وسعه العطاء، ويغدق في عطائه ما استطاع، ولو ظنّ به الآخذون قبل غيرهم البله والسفه، والثالثة: أن يدعهم وشأنهم أحسنوا أو أساؤوا، ويغضّ الطرف عمّا يراه منهم من مرذول الأفعال والمسالك؛ أي يصبح بينهم كالأصمّ لا يسمع، كالأعمى لا يرى، كالأبكم لا يتكلّم، وعلّق الشيخ في ختام نصيحته لتلميذه الراغب في إرضاء الناس ما وسعته الحيلة بقوله: وليتك تسلم بعد ذلك!
ولعلّ ما انتهى إليه ذلك الشيخ الصالح، وأسرّ به لتلميذه كعصارة خبرته بالحياة والبشر هي سر دعوة الصوفية لفكرة اعتزال الناس ما استطاع المرء لذلك سبيلاً، ليس فقط لأنّ الطّباع سرّاقة نظّارة، وأخلاق السوء لدى الأشرار تُعدى جراثيمها الأخيار بصورة أو أخرى بظروف معينة حال توفّرها، والخلطة على كل حال تعكّر صفو النفس، وتغضّ من شعورها بالراحة والأمان؛ لأنّ المرء سيُؤْذَى منهم لا محاله إيذاءً قد ينعكس على همّته في إشاعة الصلاح وفعل الخير.
احذر وجهة بوصلتك
ولله در الشيخ لو ذكّر مريده بأنّ أكثر الناس في القرآن موصوفون بكل ما يُنْتَقَص، ويهوِّن أمر الحرص على إرضائهم في نفس الإنسان العاقل فهم في كثير من المواضع وبصيغ الجمع (لَا يَعۡلَمُونَ) (الروم: 6)، و(لَا يَعۡقِلُونَ) (الحجرات: 4)، و(لَا يَهۡتَدُونَ) (النمل: 24)، و(قَلِيلٗا مَّا تَذَكَّرُونَ) (النمل: 62).
فلماذا يحرص المرء على رضاهم أصلاً، وهم على هذا النحو؟ ولماذا لا يوجّه همّته لرضا الخالق وحده موقنًا بما جاء في الحديث الشريف: «من أرضى الناس بسخط الله أسخط الله عليه الناس، ومن أرضى الله بسخط الناس أرضى عليه الناس ورضى عنه»، أو كما ورد.
لماذا يوجّه المرء بوصلته الوجهة الخطأ فلا تكون موجّهة للسماء بل للأرض وأهلها الذاهبين اللاهين؟ لماذا يوجّه كشّافه ليرى به السخط أو الرضا في أعين الناس، وعنده ما يجعل له حظوة عند الناس دون فقدان ما عند الله؟
قد يقول المرء: ما لي أبذل للناس من مالي ووقتي ومعروفي فلا يقدّر أحد بذلي إلا الأقلون، فما زال خيري إلى عباد الله مبذولاً مبتذلاً، وما زال شرّهم إلى موجّهًا منتقلاً، تلك، إذن والله، قسمة ضيزى، وعين الظلم ولحمته وسداه وكبده وكلاه!
ومثل هذا المأزوم نفسيًّا جراء مكافأة الناس له تراه معرضًا لأن يصيبه ما لا تحمد عقباه، وقد رأيت وعايشت بنفسي من أصيب بشكل من أشكال الاكتئاب نتيجة الشعور الطاغي بانعدام التقدير برغم تفانيه في الخدمة والعطاء كما توحي له نفسه.
العلاج النبوي الحكيم
ولعل يد النّبوّة الحانية الحكيمة تربت على أكتاف هذه النوعيّة من البشر مرهفة الحس، رقيقة النفس، حين تهمس بتلك الكلمات الحانية الحكيمة: «المؤمِنُ الذي يُخالِطُ الناسِ ويَصبِرُ على أذاهُمْ، أفضلُ من المؤمِنِ الَّذي لا يُخالِطُ النَّاسَ ولا يَصبرُ على أذاهُمْ» (صحيح الجامع)، فهي ترفع قدر المخالط الناس الصابر على ما يناله من أذاهم، وتراه أقوم مسلكًا وأهدى سبيلاً، ومن ثمّ تعين المرء على التحمّل، ومواصلة السير برغم الأذى حيث لا تستقيم الحياة بغير خُلطة بتبعاتها، ولا يعينه على التحمّل غير أن يسكن قلبه معنى الاحتساب، أو ابتغاء وجه الله، وأنعم به من عزاء!
يقول تعالى منبّهًا لواقع الخلطة بين الناس وآثارها: (وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ) (ص: 24).
هكذا -وبهذا القطع- أكّدت الحكمة القرآنية أنّ للخلطة مضارَّ لكنها من طرف خفي تدعو السوي صاحب الاستقامة ألا يكون هو البادئ بالبغي والعدوان على أي صورة من الصور، وتصبّره على متاعب الخلطة التي تبدو شرًّا لا بدّ منه، وضرورة من ضرورات الوجود البشري، وتدعوه أن يصبر صبر الرجال على ما يصيبه من أذى الجهّال، وعدوانهم؛ لأنها سنة الحياة حيث التدافع والتصارع أحيانًا فيدفع ما استطاع الدفع، ويعفو عن كثير حتى يستقيم له أمر نفسه، ويمضي به قطار الحياة.
حكمة الحياة الهادية
إنّ «إرضاء النّاس غاية لا تدرك»، هكذا نطق الحكماء من قديم، وهو كلام بادي الحكمة تبدو له صلة نسب بمشكاة النّبوّة الهادية التي تربي في نفس المرء نزعة واقعيّة ترى الحياة على حقيقتها، فلا يأخذها الضجر كل مأخذ حين لا يجد المرء الثناء ممّن ينتظره منه، أو يجد القدح والإساءة ممّن أحسن إليه يومًا، فتلك هي الحياة وهكذا هم البشر.
إنّ قصة جحا مع ولده والحمار من أروع ما يروى هنا من العبر، وأكثره رمزيّة واضحة الدلالة على تلك الحقيقة أو المقولة «رضاء الناس غاية لا تدرك»، فهو لم يسلم من نقد الناس عليه في أي حالة من حالاته التي تقلّب بينها: حين ركب ومشى ولده، وحين مشى وأركب ولده، ولم يعجبهم وقد ركبا الحمار معًا، ولم يعجبهم رابعًا إذ سارا خلف الحمار كأنهم راحموه، وبلا شكّ أثار استهجان الناس وضحكات استهزائهم به إذ قرّر أن يحمل الحمار مع ابنه على كتفيهما مبالغة في الفرار من ألسنة الناس الحداد، أو على سبيل الدرس الحكيم بوسيلة بيانية لا تكاد تنسى من حكيم أريب يعي عميق دروب الحكمة، وسبل إيصالها للناس.
وهكذا فلا يسلم المرء يومًا من انتقاد منتقد مهما أجهد نفسه لجلب رضا الناس، فليفعل المرء ما يراه صوابًا في قرارة نفسه ما دام لا يتعارض مع شرع أو عرف، وليضع ما يقوله الناس من بعد تحت قدمه، ودَبْر أذنه فلن ينفعه ذلك أو يضرّه قيد أنملة.
وطّن نفسك ورضها وقد فهمت بعض أسرار الحياة
نعم، إنّ ارتقاء المرء إلى قبول النقد بنّاء أو غير بنّاء، متلطف العبارة أو مخشوشنها، وإن صبره على ما يناله من ألسنة الناس مهما احتدت، إن هو إلا من علامات اتزان العقل، واستقرار النفس، واتساع البصيرة بتأثير ما لقي من تجارب، وعَرِك من أحداث.
لقد خلق الناس ليتكلموا بحَسنٍ أو قبيح، وقد اقتضت حكمته أن يكون كلّ منّا فتنة للآخر على أكثر من معنى وبأكثر من وجه؛ (وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضٖ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرٗا) (الفرقان: 20).
فليست الفتنة فقط في أن تبصر من فضّله الله عليك فتحسده أو تتحسّر أن لم تؤت ما أوتي، وليست الفتنة فقط في أن يتسلّط عليك هذا أو ذاك في لحظة قوته واستضعافك، وليست الفتنة فقط فيما يصيبك من معاناة القيام على أمر أهلك وأولادك، أو ما ينالك إذ تتصدّى لمواجهة المبطلين باليد أو اللسان.
إنّ هذه صور متنوّعة من الفتن التي تعتري حياتنا من خلال ملابستنا لعلاقات مع الآخرين، لكنها فتن لا تقلّ خطرًا وأثرًا عمّا يصلنا من أقوالهم حسنة أو سيئة، فقد يحملك إطراؤهم لتركب الهواء ركوب المختال، أو يحملك نقدهم لتذوب في جلدك غمًّا وغيظًا، وفي كلا الحالين ما أصبت وجه الحقّ.
دع من يقول عنك يحمل وزر ما يقول، واحرص أنت أن تركّز جهدك على تجويد ما بين يديك من أعمال، ترجو بها وجه ربك وحده، وثق دومًا أنّ الله يدافع عن الذين آمنوا، وأنّه لا يصحّ في النهاية إلا الصحيح، ولن يكون مآل الكلمة الخبيثة إلا خساراً.
لا يكن همك الأكبر إرضاء الناس فإنّ رضاء الناس غاية لا تدرك، وليكن همّك ومبتغاك أن تحرص على إرضاء ربّك فيما تقول وتعمل ودع له وحده أن يدفع عنك إفك المؤتفكين، وافتراءات المبطلين، وليملأ جنباتك اطمئنانًا قوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ يُدَٰفِعُ عَنِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْۗ) (الحج: 38)، (إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).