يشكل الوجود الفلسطيني في القدس المحتلة عقبة كأداء أمام مشاريع الاحتلال ومخططاته في وجه تهويد المدينة المحتلة، إذ تسعى سلطات الاحتلال إلى خفض أعداد الفلسطينيين، القاطنين في المدينة، ودفعهم نحو الخروج من القدس من خلال عدد من السياسات، من بينها سحب بطاقات الهوية الزرقاء (الإقامة الدائمة)، والتضييق على قطاعات المقدسيين الحياتيّة، وفي مقدمتها الاقتصاد والتعليم، وأخيرًا هدم منازل الفلسطينيين، وحرمان المقدسيين من السكن.
ونقدم في هذا المقال إطلالة على سياسة هدم منازل الفلسطينيين، وأشكال الهدم المطبقة، وأبرز أهداف الاحتلال من المضي في هذه السياسة، خاصة أنها تصاعدت بشكلٍ كبير في الأشهر الماضية، وقد رسختها أذرع الاحتلال كواحدة من الإجراءات العقابية، التي تستهدف المناطق الفلسطينية ولمعاقبة عائلات منفذي العمليات الفردية، إلى جانب أنها أحد أسباب دفع المقدسيين للسكن خارج القدس، وهو ما سينعكس على الميزان الديموغرافي في القدس المحتلة.
قبل الهدم
لا تقف محاولات حرمان المقدسيين من السكن عند الهدم فقط، إذ يسبقه حرمانٌ من رخص البناء في الأحياء الفلسطينية من المدينة، فلا تسمح بلدية الاحتلال للفلسطينيين بالبناء إلا في مساحات ضيقة للغاية، لا تتجاوز 7% من مساحة القدس المحتلة، وعلى الرغم من هذه المساحة الضيقة، فإن بلدية الاحتلال لا توافق إلا على نحو 2% من الرخص المقدمة في كامل القدس.
المقدسيون يُجبَرون على هدم منازلهم بأنفسهم من خلال تهديدهم بفرض غرامات باهظة
وإلى جانب النسبة الهامشية في المساحة والرخص، مقارنة بحجم حاجة المقدسيين إلى السكن، فإن بلدية الاحتلال تفرض شروطًا بالغة الصعوبة، وتوصف في غالبية الحالات بأنها «تعجيزيّة» لكي تصدر رخصة بناء، إذ يبلغ معدل كلفة رخصة البناء السكني 300 دولار للمتر المربع الواحد، ومعدل الوقت الذي يتطلبه الترخيص إلى 3 سنوات، ويصل متوسط تكلفة رخصة البناء في القدس المحتلة أكثر من 70 ألف دولار أمريكي، وهو ما يدفع المقدسيين إلى البناء من دون الحصول على تراخيص، فتعمل أذرع الاحتلال على هدم هذه المنازل والمنشآت.
خسائر بالمليارات
نتيجة الحرمان من رخص البناء، تُشير تقديرات بلدية الاحتلال في القدس إلى أن عدد المباني المعرضة للهدم يصل إلى نحو 20 ألف مبنى؛ أي أن جزءًا كبيرًا من المباني في المدينة المحتلة معرضٌ للهدم في أي وقت، وبحسب معطيات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) هدمت سطات الاحتلال ما بين 1 يناير 2009 – 10 يونيو 2024م نحو 1906 منازل ومنشآت في القدس المحتلة، وهذا ما أدى إلى تهجير نحو 4000 فلسطيني، وتضرر نحو 45 ألفًا آخرين.
وفي سياق رصد أعداد المنشآت المهدمة منذ احتلال الشطر الشرقي من القدس المحتلة، يُشير إلى حجم هذا العدوان وآثاره، فبحسب مركز أبحاث الأراضي هدمت سلطات الاحتلال منذ عام 1967 حتى نهاية سبتمبر 2021م نحو 7440 منزلاً ومنشأة في الشطر الشرقي من القدس المحتلة.
وقد بلغت التكاليف الاقتصادية لهدم بيوت المقدسيين بحسب مصادر فلسطينية نحو 9 مليارات دولار أمريكي؛ ما يجعل هذه الخسائر المالية الباهظة تُشكل عبئاً آخر يُضاف إلى الخسائر النفسية والجسدية، حيث يتم في الكثير من الحالات هدم المنزل من دون السماح للأسرة بإخراج مقتنياتها منه، إضافة إلى تعرض أفراد الأسرة للاعتداء الجسدي والاعتقال وغيره.
4 أسباب للهدم
منذ احتلال الشطر الشرقي من القدس عام 1967م، يمكن تقسيم أسباب هدم منازل الفلسطينيين إلى 4 فئات أساسية، والطرق إلى طريقتين، أما الفئات فهي:
– الهدم العسكري: حيث يقوم جيش الاحتلال بهدم منازل ومنشآت فلسطينية لدواعٍ عسكرية، كحماية جنوده والمستوطنات، ويُبرر الاحتلال هذا الهدم العسكري في إطار «أهدافٍ عسكرية قانونية».
– الهدم العقابي: هو إجراء عقابي تستهدف به قوات الاحتلال عوائل منفذي العمليات الفردية، في إطار فرض عقابٍ جماعي على هذه الأسر، وعادة ما تطال أضرار الهدم الشقق والمنازل المحيطة بالمنزل المستهدف، والسيارات المركونة في المنطقة، لتوسعة الإجراء العقابي قدر الإمكان.
7440 منزلاً ومنشأة في القدس المحتلة هدمها الاحتلال الصهيوني منذ عام 1967م
– الهدم الإداري: هو الإجراء الأكثر انتشارًا، إذ يتم هدم جلّ المنازل الفلسطينية في القدس المحتلة، بذريعة البناء من دون ترخيص، وتكشف تفاصيل قرارات الهدم الإداري، أنه واحدٌ من أسهل القرارات اتخاذًا، فيمكن أن يصدر من قبل مهندسٍ في بلدية الاحتلال، ليتم تحويل البلاغ إلى رئيس البلدية ويتم التوقيع عليه، لتباشر الجهات المختصة الهدم، أو يجبر صاحب البيت على هدم بيته بنفسه.
– هدم غير معروف الأسباب: تقوم سلطات الاحتلال بهدم منازل الفلسطينيين من دون إبداء أي أسبابٍ واضحة، ولكنها بكل تأكيد تنضوي ضمن استخدام الهدم كواحدٍ من مرتكزات سياسة الاحتلال العقابية المفروضة على الفلسطينيين في القدس المحتلة.
أما عن طرق الهدم، فالهدم يتم إما من خلال آليات الاحتلال وجرافاته، كان المنفذ جيش الاحتلال أو بلديته في القدس، واللافت هنا، أن صاحب المنشأة المهدمة يتحمل تكاليف الهدم، التي تشمل في كثير من الأحيان أجرة الجرافات وتكاليف الحماية الأمنية من قبل جيش الاحتلال، وصولًا إلى كلفة اصطحاب الكلاب البوليسيّة؛ وهو ما يجعل التكاليف تصل إلى مئات آلاف الشيكلات.
أما الطريقة الثانية، فهي طريقة جديدة استحدثها الاحتلال منذ سنوات عدة، إذ يُجبِر الاحتلال المقدسيين على هدم بيوتهم بأنفسهم، بشكلٍ قسري، من خلال تهديدهم بفرض غرامات باهظة، وتكبيدهم تكاليف الهدم، ففي عام 2023م هُدمت 95 منشأة من قبل أصحابها بشكلٍ قسريّ، وفي النصف الأول من عام 2024م هُدمت 37 منشأة على يد أصحابها بضغطٍ من قبل سلطات الاحتلال.
وأخيرًا، وبعيدًا عن أرقام الهدم وأهدافه، فإن آثار الهدم لا تقف عند القضايا المحسوسة فقط، إذ تنعكس على حياة كل العائلة التي هُدم منزلها، وبخاصة النساء والأطفال، حيث يضاعف الهدم من حاجة المقدسيين إلى السكن، ويضطرهم إلى السكن في منازل صغيرة، وتضطر في كثيرٍ من الأحيان أكثر من عائلة على السكنى سويًا؛ ما يجعل المرأة المقدسية تفقد شعور الطمأنينة والخصوصية، وبحسب شهادات لنسوة فلسطينيات، فقد أفدن أنهنّ ينمن بثيابهن العادية بعد إخطار منازلهن بالهدم، خوفًا من اقتحام المنزل على حين غرة، ما يجعل المرأة في حالة من عدم الاستقرار النفسي.