في صورة تقريبية، وفي تصويرٍ قرآني تمثيلي لمن يُؤْثِرون الرَّاحة الذليلة على المخاطرة العزيزة، والتثاقل إلى الأرض على الانطلاق في ركوب أمواج الجهاد في الأرض، بنكهةِ الهمَّة الضَّعيفة وهُزال النَّخوة، وبطُعم الإيمان الفارغ وخواء القلب من الثقة في الله تعالى، وكأنَّ السَّلامة هدفٌ يفرح به الرِّجال، قال المنافقون –وهم جزءٌ من الصَّف، ويمثِّلون اختلالاتٍ رهيبةٍ في الجماعة– يصِّور القرآن الكريم حالة الفزع من شدَّة التَّضحية في وَهَج حرِّ الصّيف، ولا يرون من ذلك إلا ما يعتذرون به في الدنيا، ونسوا حرَّ جهنم وما ينتظرهم في الآخرة، فقال تعالى عن حالتهم النَّفسية: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة: 81).
فهم لا يفقهون؛ لأنهم اتقوا حرَّ الصَّيف العارض بحرِّ جهنَّم وحريقها الدائم، بينما المؤمن الحق يشتري بصبره الشديد على شدائد الدنيا مصيره في الآخرة، وقد قيل لإحدى الصَّالحات: لماذا تتوخَّيْن صوم اليوم الشَّديد الحرِّ؟ فقالت: «إنَّ السِّعر إذا رخص اشتراه كل أحد»، وهي بذلك تتطلع إلى التحدّي في تحمُّل المشاق في سبيل الله، وهي تعالج نفسها تربويًّا بالعبادات التي لا يطيقها إلا أولو العزم من الرِّجال، والشاهد من القصَّة: واعظ الصَّيف، وما يذكِّرنا بالآخرة وما ينتظرنا فيها.
وهي من الأساليب التربوية النَّبوية الشريفة في إطار نقل الصحابة رضوان عليهم من عالم «الشهادة» الخادع إلى عالم «الغيب» الحقيقي، يخرق بهم حُجب الزَّمان وغيب المكان، ليحرِّك القلوب بالمواعظ اللَّطيفة، ويدفع بالأشواق إلى الآخرة، ولكن لا يتلّطف بالأماني فقط، بل يأخذهم بالعزائم بالصُّور المرعبة والأمثلة الواقعية التي تلامس الحياة اليومية لهم.
فقد روى الشيخان وغيرهما أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا اشتدَّ الحرُّ فأبْرِدُوا بالصَّلاة (أي: أخِّروها حتى يبرد الجوّ)، فإنَّ شدَّة الحرِّ من فَيْح جهنم»، وينقل للصحابة صور الآخرة إلى الدنيا، وكأنَّهم يتمثّلون قوله تعالى: (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ {6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (التكاثر)، وكأنَّهم يسمعون حسيسها، وهي تشتكي من شدَّة حرِّها لتنطق بالحقيقة الكاملة والحكمة البالغة، أن شدّة الحرّ هي واعظٌّ من الصَّيف يذكِّرنا بشدَّة الحرِّ فيها، فقد روى ابن ماجه بإسنادٍ صحيح أنَّ النّبي صلى الله عليه وسلّم قال: «اشتكت النّار إلى ربِّها فقالت: يا ربّ أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نَفَسيْن: نَفَسٌ في الشتاء، ونَفَسٌ في الصّيف، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها، وشدّة ما تجدون من الحرّ من سمومها».
إنها حقيقةٌ ماثلة في وجوهنا عمَّا ينتظرنا، وكم ننسى المشهد المفزع للتصوير النبوي الشريف لشدّة حرّ جهنم، وكأنّ النبي صلى الله عليه وسلّم يجعل العيش بالإحساس الدائم والشعور الحيّ لعقيدة الإيمان بالنّار وازعًا دينيًّا يقوِّم السُّلوك في الدنيا، فيثمر إنتاجًا وعطاءً وإنجازًا، وهو القائل: «ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم»، قالوا: والله إنْ كانت لكافية! قال: «إنَّها فُضِّلت عليها بتسعةٍ وستين جزءًا، كلّهنّ مثل حرِّها»، وما الذي يعطّل الجهاد بشدّة حرّ الدنيا والشمس تبعد عن الأرض بأكثر من 150 مليون كلم، وحرُّها لا يتجاوز في أحسن الأحوال 50 أو 60 درجة مئوية، ومع ذلك لا نطيق، فكيف والنبي صلى الله عليه وسلم ينقل لنا مشهدًا أُخْرويًّا ناطقًا وفصيحًا، فيقول: «تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون النّاس على قدْر أعمالهم في العرَق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا».
وهل يطيق أحدٌ منَّا تلك المساحة التعبيرية القرآنية عن حقيقة العذاب وشدة الألم وهول جهنم؟ بقوة القرع في الآذان ليرحل العقل بالتأمل وحِدَّة التدبُّر إلى حال أهل الجحيم، حين يحكي النّور الإلهي هذا المصير المرعب فيقول تعالى: (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ {19} يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ {20} وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ {21} كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الحج).
وهل يطيق أحدٌ أن يلبس ثيابًا من نار، ثمّ يُصبُّ فوق رأسه من الحميم (وهو الماء السَّاخن الذي بلغ منتهى الغليان)، وقد بلغ الغاية في شدَّة الحرارة، وأنت ترْقُب المشهد وهو يتجرَّعه ولا يكاد يسيغه، وهو يصهر ويذيب ما في بطنه، ويتلف جلده وهو مصدر إحساسه بالألم؟ وقد جاء في الحديث: «إنَّ الحميم ليُصبُّ على رؤوسهم، فينفذ من الجمجمة حتى يخلُص إلى جوفه، فيسْلِت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصّهر، ثم يُعاد كما كان»، وفوق ذلك: فوقهم من السّياط والمقامع من الحديد تمنعهم من الخروج من هذا الغمّ، وهم يتجرّعون مرارة هذا العذاب بالحريق، وجاء في الحديث الشريف أيضًا: «لو ضُرب الجبل بمقمعٍ من حديدٍ، لتفتّت ثم عاد كما كان، ولو أنّ دلوًا من غَساقٍ يهراق في الدّنيا لأنتن أهل الدنيا»، وفي روايةٍ: «لأفسد عليهم معايشهم».
إنّ لهب النّار يرفعهم، حتى يكاد يرميهم خارجها، فتضربهم خزنة النّار بمقامع الحديد فتردَّهم في قعرها، وقد قال الفضيل بن عياض: «والله ما طمعوا في الخروج، إن الأرجل لمقيَّدة، وإنَّ الأيدي لموثقة، ولكن يرفعهم لهبُها، وتردَّهم مقامعها».
ماذا لو سافرنا قليلاً، وباختراق غيب الماضي لنسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو يصف لنا حال أهْوَن أهل النار عذابًا، فيقول عليه الصلاة والسّلام: «إنَّ أهْوَنَ أهل النارِ عذاباً مَنْ لَهُ نَعْلانِ وشِرَاكانِ من نارٍ، يَغلي منهما دماغُه كما يغلي المِرْجَل، ما يَرَى أنَّ أحداً أشدُّ منهُ عَذَاباً وإنَّهُ لأهْونُهمْ عذاباً».
وماذا لو قلنا له: يا رسول الله: صِفْ لنا لونها لندرك حقيقة فضاعتها لعلّنا نتَّعظ، لقال صلى الله عليه وسلّم: «أُوقِد على النّار ألف سنةِ حتى احمرّت، ثم أُوقِد عليها ألف سنةٍ حتى ابيضّت، ثم أُوقِد عليها ألف سنةٍ حتى اسودّت، فهي سوداءٌ مظلمة»؛ والقصد من ذلك هو: الإعلام بفظاعتها والتحذير من فعل ما يؤدِّي إلى الوقوع فيها، ولو أنَّ أهل النار علِموا بنار الدنيا، وهي أهون عليهم لنَامُوا فيها.
هي إذًا موعظةٌ بالغة، عندما تلْسعُنا خيوط حرِّ الصَّيف، لنتذكَّر قوله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ).