لم يكن قيصر الروم هرقل ليصرف نظره عما كان لمعركة «مؤتة» (8هـ) من أثر كبير لصالح المسلمين؛ ولهذا كان يرى ضرورة القضاء على القوة الإسلامية الصاعدة قبل أن تصبح خطراً يصعب القضاء عليه، فأعدَّ لذلك جيشاً عظيماً، وقد ترامت الأخبار إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بنبأ حشود الرومان والعرب الغساسنة، ووصول مقدماتها إلى البلقاء بالشام.
في ضوء هذه المعطيات، قرَّر الرسول صلى الله عليه وسلم إعداد العدَّة لغزو الروم قبل أن يهجموا على المدينة، فاستنفر الناس إلى غزوة «تبوك».
كانت الأجواء المحيطة بهذه الغزوة في غاية الصعوبة، ولهذا سُمِّيَتْ غَزْوَة الْعُسْرَةِ، والعُسْر فيها مركَّب من أمور، أحدها: شدَّة الحر في ذلك الوقت (الصيف) وذلك المكان (الصحراء)، ثانيها: بُعْد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات، ثالثها: نضج الثمار وطيب الظلال بالمدينة في ذلك الوقت، وكان الناس يحبُّون أن يمكثوا في ثمارهم وظلالهم، رابعها: شدَّة حاجة المسلمين يومئذ إلى الْعُدَّةِ (كالراحلة والسلاح والزاد)، وخامسها: كون الْمَغْزُوُن عَدُوًّا عَظِيمًا، حيث كان الرومان أكبر قوة عسكرية في العالم وقتها.
وقد انقسم الناس في قضية الاستجابة لنداء الجهاد إلى مؤمن ومنافق، أما المؤمنون، فصَدَقُوا ما عاهدوا الله عليه، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم؛ أما الجهاد بالمال، فبذل كلٌّ على حسب حاله، بذل الأغنياء الصدقات الكثيرة، وبذل الفقراء الصيعان والأمداد، (منهم من أتى بصاع من تمر، ومنهم من جاء بنصف صاع أو أقل)، ولم يجد بعض المُعدَمين (الذين لم يجدوا ما ينفقون، وعزَّ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد) ما يبذلونه غير دموعهم؛ (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة: 92)، ومنهم علبة بن زيد بن حارثة من لم يجد ما يتصدَّق به غير عرضه، (فتصدَّق على كل مسلم بكل مظلمة أصابه فيها من مال أو جسد أو عرض)، وأما الجهاد بالنفس، فخرج الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم لتبوك لم يتخلَّف منهم دون عذر شرعي ولا نفاق إلا الثلاثة الذين خُلِّفوا.
وأما المنافقون؛ فقد زعموا أنهم تهيَّؤوا للغزو ثم عَرَضَت لهم الأعذار فَاستأذنوا في القعود، لكن القرآن فضحهم، وكذَّب زعمهم، وبيَّن أنه ظهر منهم من القرائن ما يدلُّ على أنهم ما قصدوا الخروج للجهاد بالكلية، وأن أعذارهم التي اعتذروها باطلة؛ فإن العذر المعتبر هو المانع الذي يعرض للإنسان إذا بذل وُسْعَه، وسعى في أسباب الخروج، ثم منعه مانع شرعي، فهذا الذي يُعْذَر، وهذا أمر لم يحصل من المنافقين البتَّة، فإنهم ما قصدوا إلا التخلُّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ) (التوبة: 46)، أي: لو كانت إرادة هؤلاء المنافقين صادقة في الخروج معك يا محمد للغزو لاستعدوا لذلك بما يحتاجه المجاهد من المركب (الراحلة) والسلاح والزاد، وغير ذلك من الأشياء التي لا يستغنى عنها المجاهد في سفره الطويل، والتي كانت في مقدورهم وطاقتهم، أَمَا وقد تركوا إعداد الْعُدَّةَ للجهاد، فهذا دليل على إرادتهم التخلُّف.
ما الدافع الحقيقي وراء استجابة المؤمنين لنداء الواجب، وتخلُّف المنافقين عنه، أهي الإرادة أم القدرة؟ بعبارة أخرى: هل كانت استجابة المؤمنين لأنهم أكثر قدرة أو لأنهم أقوى إرادة؟ وبالتالي، هل كان تخلُّف المنافقين لأنهم أقل قدرة أو لأنهم أفقر إرادة؟ تكشف المقارنة السابقة بين موقف الطرفين عن أن الدافع الحقيقي يعود إلى الإرادة -ولا شيء سوى الإرادة- وجوداً وعدماً.
وفقًا للمقاييس المادية لم يكن المؤمنون أغنى مالاً وأكثر قدرات من المنافقين، خاصة أن كثيراً منهم أصابه مسيس الحاجة والفقر؛ (فقد كانت هذه الغزوة في زمان عُسْرة من الناس وجدب في البلاد)، ولكنهم كانوا يمتلكون النية الصادقة والإرادة القوية التي كان يفتقدها المنافقون، بل على العكس كان المنافقون مياسير قادرين على تحصيل الْأُهْبَةِ وَالْعُدَّةِ، فقد وصفهم القرآن بأنهم أُولُو الطَّوْلِ تارة، وأنهم أغنياء تارة أخرى.
لم يمتلك الصحابة الإرادة الماضية فحسب، بل إن إرادتهم تحدَّت قدراتهم (بدءاً من تجهيز الجيش مروراً بمسيره إلى «تبوك»)، فإنهم برغم ما أعدُّوا إلا أن الواجب كان فوق إمكاناتهم، فقد قَصُرَت النفقة عن هذا الجيش الكبير -الذي لم يخرج المسلمون في مثله من قبل، حيث بلغ تعداده 30 ألفًا- فكان كل 18 رجلاً يتناوبون على ركوب البعير الواحد، وأملقوا من الطعام فاضطرّ بعضهم إلى أكل أوراق الشجر، واستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في نحر بعض إبلهم التي يسقون عليها ليأكلوا منها، وكادت رقابهم أن تنقطع من شدة العطش، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيشرب ما في كرشه من الماء.
لا تشكِّل المقاومة الإسلامية في غزة شوكة مستعصية في حلق الاحتلال الصهيوني لأنها أكثر قدرات وإمكانات مادية، بل لأنها أقوى إرادة وأصدق عزيمة، وتملك إرادة تتحدَّى حدود الإمكانات المتاحة، مؤمنة بأن الواجب فوق الإمكان.
في ظل الإبادة الجماعية التي تجري علينا في قطاع غزة، وفي ظل الغياب الواضح لأي جهد مؤثِّر (إسلامي وعربي، رسمي وشعبي) في مواجهة المشروع الصهيوني -باستثناء جبهتي الإسناد من الحوثي باليمن وحزب الله بلبنان- يحق لنا أن نتساءل: هل يعجز إخواننا عن مواجهة العدو الصهيوني أو أنهم لا يريدون مواجهته؟ بعبارة أخرى: ما الذي يمنعهم من مواجهته؛ الفقر في القدرات والإمكانات أو الفقر في الإرادة وترتيب الأولويات؟
ليس المقال بصدد الحكم على كيانات بعينها، كما أنه يصعب الحكم على كل كيان بعينه، وقد أراحنا القرآن الكريم إذ وضع لنا معياراً نختبر به المواقف ونحكم به على الأشخاص بحيادية وموضوعية، وخلاصة هذا المعيار أن الإرادة الصادقة دليلها الإعداد الجاد، (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ) (التوبة: 46)، فالذي يريد أمرا حقًّا وصدقًا يعدُّ له العدة، ويحشد له إمكاناته وطاقاته، وإلا كانت إرادته مجرَّد ادِّعاء.
فإذا قلتَ: إن إعداد العدة وحشد الطاقات والإمكانات لمواجهة الاحتلال الصهيوني لا يحدث غالبا؛ فمعنى هذا أن مشكلتنا مع الاحتلال هي في الأصل مسألة إرادة وترتيب أولويات، وليست مسألة قدرات وإمكانات، خاصة أننا من أغنى الأمم بشرياً ومادياً، بل وإرثاً دينياً وحضارياً.
في ضوء هذا المِسْبار يمكن القول: إن النظام الذي يطبِّع علاقاته مع الكيان الصهيوني لا يريد تحرير فلسطين ولو أغرقت مساعداتُه قطاع غزة، وإن الجماعة التي لا تملك رؤية واضحة للاشتباك مع المشروع الصهيوني لا تريد تحرير فلسطين ولو نادت شعاراتُها بعكس ذلك.
ولسائل أن يقول: إن الإرادة وجوداً وعدماً أمر خفي لا يُطَّلَعُ عليه، فكيف يمكن الحكم على الغير أنه يريد أمراً من الأمور أو لا يريده؟! والجواب: أن القرآن الكريم أناط الحكم بسبب ظاهر وهو إعداد العدة، نظير ذلك في الفقه أن الرضا شرط لصحة العقود، ولمَّا كان الرضا أمرا خفيا لا يُطَّلَعُ عليه، أُنِيطَ الحكم بسبب ظاهر وهو الصيغة (الإيجاب والقبول).
من الصعب أن تجد أحداً يقول: لا أريد تحرير فلسطين، لكنك ستجد الكثير ممن يصرِّح بعجزه عن الإسهام في تحريرها، فقد جرت عادة الناس أنهم يعبِّرون عن عدم امتلاك الإرادة بعدم امتلاك القدرة في كثير من الفضائل والواجبات؛ ويرجع السبب في ذلك إلى أن نفي الإرادة يفتقر إلى السند المنطقي والأخلاقي، ويحمِّل صاحبه المسؤولية، وهذا شيء يجلب المَلامة، بخلاف نفي القدرة فيتضمَّن الإحالة على شيء خارج الوُسْع والتكليف، وهذا أمر يجلب العذر.
ختاماً، إن الإنسان لا يسعه إلا الانخراط في مشاريع عمل أو إعداد (إن لم يكن جاهزاً للعمل) لنصرة إخوانه، لئلا يكون ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم وكانوا من القاعدين، لكن ماذا لو عجز الإنسان عن ذلك، فهل له من عذر؟ هذا ما يجيب عنه مقال لاحق إن شاء الله تعالى.