يواجه المشروع العلماني في بلادنا العربية والإسلامية رفضاً متزايداً من القاعدة الجماهيرية العريضة، وكلما استشعر العلمانيون أنهم قد حققوا نجاحاً أو إنجازاً ما على الأرض، سرعان ما يكتشفون أنها لم تكن سوى تربة متحركة، وأنهم غير قادرين على تجاوزها مهددين بالغرق فيها.
ربما يعود ذلك للنشأة المشبوهة لاستنبات بذور العلمانية في بلادنا، وربما لأن مضمونها الفكري رغم كل محاولات تجميله المزيفة يتناقض مع ما استقر من القواعد الأساسية التي تكوّن الذات الحضارية، وربما لأن القاعدة الجماهيرية تدرك أن المشروع العلماني في صورته الراهنة يكرس حالة التبعية على كافة المستويات الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية.
العلمانية والدنيوية
بعيداً عن الدخول في جدل مصطلح «العلمانية» وماذا يعني؟ وكيف تم اشتقاقه؟ فإن المقصود بالعلمانية هو الدنيوية مقطوعة الصلة بالآخرة، أو بمعنى أوضح فصل الدين عن الحياة، وليس ما هو شائع من أنه فصل الدين عن السياسة فقط.
وفي هذا السياق، لا بد أن نلفت النظر إلى أن مصطلح العلمانية لا ينتسب لكلمة العلم، وإن كان كثير من العلمانيين يحاول استغلال العلم ومنجزاته لإزاحة الدين من الحياة، وكأن الدين يتناقض مع العلم!
المشروع العلماني هو مشروع متناقض مع الرؤية الإسلامية للكون والحياة، بل هو مشروع معاد له، فالعلمانيون بشتى توجهاتهم الفكرية والسياسية لا يجتمعون إلا على رفض المشروع الإسلامي والاستهزاء به.
العلمانية والفن
أحد أهم الأدوات التي استخدمها المشروع العلماني لتوصيل رسالته هو الفن، فاستخدام الدليل العقلي وقوة الإقناع لم ولن يجدي نفعاً في تغيير الهوية الحضارية للأمة المصبوغة بالصبغة الإسلامية، أما الفن فله منطق مغاير؛ فهو يقوم بفتح مسارات عاطفية لا عقلانية تتصل مباشرة باللاوعي، فيتم تقديم صاحب الرؤية الإسلامية في قالب ظلامي أو شبه ظلامي، فهو إما مضطرب نفسياً أو في قلبه مرض يتحدث عن الفضيلة وفي أعماق قلبه الذي يصوره العمل الفني تتربع الرذيلة، عكس النموذج العلماني الواضح الشفاف صاحب القيم، ولا بأس من تقديم نموذج ثالث للنفعي الذي لا يمتلك مشروعاً.
وعلى الرغم من كثرة ما كتب عن أهمية وجود الفنان ذي التوجه الإسلامي، فإن الواقع العملي يشهد أن جهود الإسلاميين في هذا السياق تبدو غاية في التواضع.
يمكننا القول، إذن: إن تحييد الدين عن الحياة بشكل فج أو بشكل بالغ التهذيب كتلك الدراما التي تناقش هموم الحياة اليومية للأسرة، وما يعتريها من قيم تهددها بطريقة لا نلمس فيها أي أثر للدين، وكأن الدين غير موجود، وأنه يمكن أن تكون لنا منظومة أخلاقية متكاملة دون أن يكون الدين مساهماً فيها.
نشأة مشبوهة
الدين غير الموجود أو الدين المستبعد هو جزء لازم من المشروع العلماني منذ نشأته الأولى في بلادنا، فعندما يكون حامل مشعل العلمانية مثل يعقوب صروف، وفارس نمر، وشبلي شميل من مسيحيي الشرق، فمن الطبيعي أن يتم استبعاد الدين بعد تلك الحرب الطويلة والمرهقة التي قادتها العلمانية مع الكنيسة ورجالها.
وعندما يقود المسيحيون العرب الثقافة في بلادنا صاحبة الهوية الإسلامية، فلا بد أن يتم إخراج الدين من إطار المعادلة؛ وذلك لسببين أساسيين:
الأول: الصراع الديني بين المسيحية والإسلام (خاصة في بلاد الشام)، فهناك رفض مبدئي للإسلام، وأن يكون هو رائد المشروع الحضاري للأمة من قبل هؤلاء المسيحيين.
الثاني: صراع الكنيسة مع التيار العقلاني والعلماني في أوروبا وتأثرهم بما دار هناك باعتبار المشترك الديني، ومن ثم رأوا أن الحل يكمن في تخطي فكرة الدين كله سواء كان الإسلام المهيمن أو المسيحية التي ينتمون إليها.
على أن النشأة المشبوهة تتجاوز المثقفين المسيحيين الذين رفعوا رايات العلمانية في بلادنا، فأحمد لطفي السيد الذي بدأ حياته السياسية مؤمناً بفكرة الجامعة الإسلامية لكنه سرعان ما انقلب عليها بعد سفره لأوروبا، وعاد ليحمل راية العلمانية والليبرالية تحت ظل عباءة الاستعمار، حيث رأى أن مستقبل الأمة المصرية (التي فصلها عن محيطها العربي والإسلامي) في ترسيخ قيم الليبرالية والعلمنة، وأن هذا لن يتأتى إلا بمهادنة الاحتلال؛ لذلك لن يكون من المبالغة في شيء قولنا: إن العلمانية نشأت نشأة مشبوهة في ظل الاحتلال ورعايته، ووصل الخبث حد أن السيد رحب بالاحتلال الإيطالي لليبيا نكاية في العثمانيين ورفضاً لفكرة الرابطة والجامعة الإسلامية، وكأن إصلاح الخلافة المترهلة ضرب من المستحيل، بينما التحرر من الاحتلال أمر ممكن تحت رعاية الاحتلال نفسه والتفاوض معه ودعمه لنا على طريق النهضة!
النشأة الخبيثة للعلمانية تجاوزت هذا كله بتعاملها الطبيعي مع الحركة الصهيونية، ففي عام 1925م افتتحت الجامعة العبرية بالقدس، وحضر الافتتاح اللورد بلفور، صاحب وعد تأسيس وطن قومي لليهود، ولقد شارك لطفي السيد في حضور هذا الافتتاح، ولما انقلب الشارع العربي عليه أصدر بياناً هزيلاً يعتذر فيه للأمة، وقد سبقه في ذلك العلماني اليساري شبلي شميل حيث نشر مقالاً بصحيفة «الأهرام»، وصف فيه خصوم الصهيونية بالشوفينية، ودافع عن استيطان اليهود بأرض فلسطين؛ لأن الأرض بزعمه هي ميراث المجتهد، والمقصود بالمجتهد هنا الصهاينة بالتأكيد.
مستقبل غامض
على الرغم من أن الممارسة العملية للشارع العربي والمسلم تشهد في كثير من الأحيان تباعداً ملحوظاً بين الرؤية الإسلامية، والواقع، فإن الأغلبية الساحقة تؤمن بأن الرؤية الإسلامية الشاملة للحياة هي ما تدين به وتحاول تنزيله على واقعها بدرجات متفاوتة؛ وبالتالي فهي ترفض العلمانية كمصطلح سيئ السمعة وكتطبيقات حياتية.
بينما يرى العلمانيون أن المستقبل لا بد أن يكون لصالح العلمانية، وهو ادعاء غوغائي لا دليل عليه ولا إرهاصات تنبئ به خاصة مع اعترافهم بفشل العلمانية حتى هذه اللحظة بالتغلغل لعقل ووجدان المواطن العربي بفضل قوة الإسلام وحيويته وقدرته على التصدي لها.
لذلك، فالتيار العلماني يسعي لتقويض الإسلام من الداخل، وتكوين دين جديد يحمل اسم الإسلام، دين يشبه ما تسميه فرنسا بالإسلام الفرنسي مثلاً، وهو أمر ليس بالسهل، لذلك لا يتورع العلمانيون من المراهنة على نفس التيارات التي ساهمت في استنبات بذور العلمانية في بلادنا.
ويبقى مستقبل العلمانية في بلادنا رهناً لجدية الجهود التي تسعى لإصلاح واقعنا المعاصر برؤية مستمدة من الإسلام، ومدى قدرة هذه الجهود على مجابهة السعي العلماني لنشر بذور الفتنة والتشكيك.