حين كنا في المرحلة الجامعية، كان يأخذني العجب كل مأخذ وأنا أشاهد فرحة الزملاء العارمة إذ يخبرهم أستاذ مادة من المواد عن المواضيع التي سيكون منها مآخذ أسئلة امتحان آخر العام، أو حين يعطي -بإلحاح أو بغير إلحاح- أسئلة بعينها قد تأتي بنصها، أو بتحوير قليل في الامتحان.
كنت أعجب من سلوك الزملاء الطلاب أكثر مما أعجب من سلوك الأستاذ، فقد كنت أجد للأستاذ عذراً إذ أظنه بذلك يتقرب إلينا نحن الطلاب حبًّا للمحمدة المظنونة أو المتوهمة بهذا السلوك المستغرب، أو تغطية لعجز في محصوله العلمي يتجنب مغبته، أو ضعفاً في أدائه العملي يحسّه في نفسه مُحِقًّا أو مُبطلاً، أو لعله يرجو بذلك أن يعالج تخوفاً يخشاه على نتيجة طلابه التي قد تؤثر على سمعته بالجامعة، وموقف إدارتها منه، بما يهدد فرص استمراره في عمله ومصدر رزقه، لكن عجبي من سلوك الطلاب كان لأسباب أخرى.
إنّ الطالب مهمته أن يكون ملمًّا إلمامًا كافيًا مُرضِيًا بكل أجزاء المادة التي سيمتحن فيها، ولا ينبغي أن يهمل جزءًا من المقرر لصالح جزء آخر، فالعلم وحدة واحدة مهما تفاوتت درجات أهمية مفرداته، فإن لكل منها أهميته في المنظومة المتكاملة لهذا العلم، ولو تعود الطالب الجامعي -تحديدًا-على هذا السلوك الانتقائي في تعامله مع مفردات ما يدرس من علوم فلا شك أنه بذلك يضرّ تكوينه العلمي في هذا العلم أو ذاك، وقد يؤثر على استيعابه الوافي للعلم، وعلى مسيرته العلمية لاحقاً فضلاً عن آثار أخرى ذات أبعاد أخلاقية، من وجهة نظري.
ومن ثم كنت أرى في سلوك الزملاء ضربًا من ضروب ذهان الاستسهال الذي رأيته، وأراه لليوم ضارباً أطنابه في ربوع مجتمعاتنا في مختلف مجالات الحياة، وإليه كنت -ومازلت-أعزو كثيرًا من مظاهر تخلفنا الحضاري.
والذهان لمن لا يعرفه هو اسم لمرض من الأمراض النفسية أو العقلية التي تصيب الإنسان، وتخصم من رصيد سويته الإنسانية على نحو ما.
ولا ريب أن الإنسان بطبعه يسعى إلى كل ما هو أيسر بالنسبة إليه، ويميل بفطرته إلى ما لا يكلفه عنتًا ومشقةً فيما يأتي أو يدع من شؤون حياته، ورغم أنه قد خُلق «في كبد»؛ أي في تعب ومشقة، كما تقرر وتؤكد الآية الكريمة من سورة «البلد»؛ أي خلق ليتحمل صنوف المتاعب والمشقات في هذه الدنيا حيث لا تنفك حياته فيها عن صدمات تتلوها صدمات من المعاناة والمنغصات، إلا أنه يظل باحثًا متلهفًا ساعيًا إلى ما يخفف عنه متاعبه، وما يوفر له فرصة الإفلات من تلك المتاعب والمنغصات.
غير أن سبيل العلم على وجه الخصوص هو سبيل معاناة، سبيل بذل الجهد المبرمج المقصود وصولاً لغاية محددة مرغوبة، فهو سبيل الجادين المجدين، سبيل في أغلبه وعر شاقّ ليس مفروشًا بالورود والرياحين، والأصل أن يتعب طالب العلم، ويتعنّى لينال ما يتمنّى تعبًا متواصلاً إلى أقصى ما تطيق نفسه، وتبلغ به إمكاناته لينال النصيب الأوفى من العلم المؤهّل للنجاح في دروب الحياة، وقديمًا قيل: «من جد وجد»، و«في الصباح يحمد الناس السَرى».
ولله در القائل:
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر
إن الاستسهال الدائم في التعامل مع الأمور المختلفة، وبخاصة فيما يتعلق بطلب العلم، هو من أخطر ما يجني على إتقان ما تقوم به من أعمال، وأزعم أن الكوارث التي تشهدها بلادنا من تعثر المشروعات، وقصر عمر ما يتم إنجازه من منشآت، وعدم ضربنا بسهم وافر في ميادين البحث العلمي الجاد، وإنتاج المعرفة على نحو ما نجد لدى الأمم الحية الأكثر تحضرًا، إن ذلك كله -حسب تقييمي وتقديري-إن هو إلا حصاد ذهان الاستسهال الذي أراه أحد أخطر الأمراض النفسية التي خيّمت بظلالها الكئيبة على مجتمعاتنا، وأوردتها المهالك.
إنّ نزوع نفس الإنسان إلى طلب السهل القريب فيما يأتي أو يدع، وذيوع هذه النزعة بالغة الضرر في مختلف مجالات الحياة يجعلنا نرضى بالدنية أحيانًا، ولا نطمح إلى المطالب العالية التي لا يتشوف إليها ولا تشرئب لها غير أعناق أصحاب الهمم العوالي الذين تقوم على أكتافهم الحضارات، وتؤثل الدول.
نعم، ينبغي أن نوازن بين الحرص على التيسير وعدم المعاسرة في معاملاتنا اليومية، وفيما يقدمه لنا الفقهاء من فتاوى دينية تسم حياتنا بميسمها آجلًا وعاجلًا، وبين ما ينبغي أن نبذل له العرق والجهد، وما يستحق من ضروب البذل لننال شرف الحصول عليه على النحو الأفضل.
وفي اليوم الذي تشتد فيه العزائم، وتتطلع الهمم إلى معالي الأمور مهما كان في ذلك من عنت ومشقة، في ذلك اليوم الذي نرجو أن يكون قريبًا، سوف نكون قد تجاوزنا مرحلة الذل والذيلية، وابتدأ مشوار طويل في سبيل بناء مجتمع أقوى، وأكثر تماسكًا وإنتاجًا، مجتمع الريادة والأستاذية للعالم أجمع.
إن الدعوات لا تقوم على أكتاف المترخصين، والرسالات الكبار لم يقم بأمرها غير أولى العزم من الرسل، والدول لا تؤثّل ويرسّخ بنيانها إلا بأيدي رجال العزم والحزم، والحياة في مختلف الميادين لا تبنى إلا على أيدى ذوى النفوس الطلعة، والهمم العالية، والأماني البعيدة التي تتجاوز قيود الزمان والمكان، وتستشرف آفاقًا أرحب مع ثقة عميقة الغور بالنفس وقدراتها الملهمة، ثقة تملأ تلك النفس عزماً، ويقيناً لا يتزعزع بإمكانية امتلاك ناصية المستقبل، وتوجيهه الوجهة المرغوبة، يقيناً بأن يد صاحب العزيمة هي ستار القدرة القادرة تصنع به التاريخ، وتخط به على الأرض آثارًا تتحدَّى الرياح السوافي، وعوامل فتك الزمان، وما أكثرها!