تلقيت فجر اليوم خبر استشهاد القائد المجاهد أبي العبد إسماعيل هنية؛ فانتابني فزع وألم ودوار، ثم هرعت إلى منصات الأخبار أستطلع حقيقة الخبر وتداعياته، وبعد مضي وقت ليس قليلاً في المتابعات، عدت إلى نفسي متسائلاً: ما هذا الفزع الذي انتابك؟! وما هذا الدوار الذي أصابك؟!
هل كنت تظن أن الحديث عن التضحية والجهاد مجرد دعايات وتصريحات؟! هل كنت تظن أن الموت في سبيل الله حصرا على من هم بداخل الخنادق والصفوف والمخيمات؟! ألم تعلم أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات عليه بُعث عليه، وأن الدماء التي أُريقت منه في الشهادة ستكون برهانه يوم القيامة؟ كما جاء في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والَّذي نفسي بيدِه لا يُكْلَمُ أحدٌ في سبيلِ اللهِ -واللهُ أعلَمُ بمَن يُكْلَمُ في سبيلِه- إلَّا جاء يومَ القيامةِ وجُرحُه ينثَعِبُ دمًا اللَّونُ لونُ دمٍ والرِّيحُ ريحُ مِسكٍ» (رواه البخاري).
ألم تعلم أن الأسلحة التي حملوها على أعناقهم، والهيئة التي اصطحبوها حين جهادهم ستكون علامة تميزهم يوم القيامة، وأسباب سبقهم إلى جنات النعيم؟ وآية ذلك ما رواه أنس أن النبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقف العباد للحساب، جاء قوم واضعي سيوفهم على رقابهم تقطر دمًا، فازدحموا على باب الجنة فقيل: من هؤلاء؟ قيل: الشهداء كانوا أحياء مرزوقين» (رواه الطبراني بإسناد حسن)، ذكر السيف في الحديث؛ لأنه السلاح الغالب استعماله في ذلك الوقت، ويلحق به السلاح المستعمل اليوم، فشهداء عصرنا يأتون يوم القيامة، حاملين سلاحهم الذي استعملوه.
ثم عدت متسائلاً مع نفسي: هل نسيت أن من ادعى شيئاً كان حقاً على الله تعالى أن يختبره فيه؟ وقد ابتلى الله صاحبك في أولاده وأحفاده، فصبر صبراً تعجبت منه الخلائق، فلما صدق الله تعالى بالصبر والثبات واليقين، صدقه الله تعالى بمنازل الشهداء والأبرار والصالحين.
أم كنت تظن أن الثبات ينتهي حتماً ببقاء الداعية وموت أهل الضلال والبهتان؟! ألم تسمع لقول الله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) (غافر: 77)، وقوله تعالى: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ {41} أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ) (الزخرف).
ثم عدت متسائلاً: على أي شيء تألمت؟ ولماذا كل هذا الانزعاج والقلق؟ فقالت نفسي: حزنت لأن العدو المجرم نال من المقاومة الباسلة، فاغتال قائداً فذاً من قياداتها، فقلت لها: ومتى كانت الأمة تنصر بميلاد قائد أو بوفاته؟ لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فاهتز الأصحاب وعلى رأسهم عمر، حتى أعلنها أبو بكر في تأصيل عقدي وفكري: «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت»، فانتبه الصحابة، وتقدموا لحمل المهمة راشدين.
ومات أبو بكر في أوقات شديدة الحساسية، فجاء عمر ليكون فرقاناً، ويعلي به الله راية الدين، وهكذا كان تاريخ الأمة المجيد، على مدار العصور والأزمنة.
فموت قائد أو أكثر لا يعني هزيمة الحق وانتصار الباطل، فقد استشهد الشيخ المؤسس أحمد ياسين، ومن قبله استشهد الشيخ المؤسس حسن البنا، واستشهد القائد د. عبدالعزيز الرنتيسي وغيره الكثير والكثير، فما كان استشهادهم إلا انطلاقة فتية لقيادات قوية، ورسوخاً للفكرة، وانتشاراً للمنهج، وغيظاً للباطل، ورفعة للراية.
فما انتصر المجرمون باستهدافهم لقائد سياسي مغوار، ولكنهم فشلوا في الميدان فلجؤوا الى وسائل قطاع الطرق ومنهجياتهم، وسُيخرج الله بدلاً من القادة قيادات، والقضية تنمو فروعها، وتشتد أصولها، بقدر ما تُسقى من دماء الشهداء.
قالت لي نفسي: ولكنه الخطيب البارع، وحافظ القرآن المتقن، والأخ الرقيق والحبيب الرفيق، فقلت لها: نعم، نحن نحزن لفراق الأحباب، ولكن مع يقيننا أنهم باصطفائهم بالشهادة أحياء، وليسوا مجرد أحياء، بل أحياء عن ربهم يرزقون فرحين، وأن الله نهانا أن نُطلق عليهم لفظ الموت، فقال تعالى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) (البقرة: 154).
لقد خلعوا قميص المعاناة، ولباس الابتلاءات، وجسد الاختبارات، لتنتقل أرواحهم إلى أعالي الجنات، تسرح في نعيمها، متنعمة برضوان ربها، فماذا خسر أبو العبد بالاغتيال؟!
لقد ربح ما لا يخطر لبشر على بال، ولو أنه قُدر لي أن أتحدث مع أبي العبد الآن وأسأله: ماذا تتمنى يا أبا العبد؟ هل كنت تتمنى ألا تذهب إلى هذه المراسم حتى لا تُقتل، أم كنت تتمنى أن تكون في فندق آخر، أو ليت العدو لم يتمكن من الوصول إليك؟
لأجابني قطعاً: لا والله، إنما أتمنى أن أعود إليكم لأُقتل مرة أخرى وأخرى وأخرى في سبيل الله، وآية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة» (رواه البخاري).
وما خسرت القضية المباركة، وما هُزمت، بل تنبه كل غافل، وسرت القوة في جسد كل مجاهد، وأُقيمت الحجة على كل قاعد ومتكاسل، وتعمقت مسيرة الجهاد في كل جيل قادم، وأضحى دَيناً على كل مسلم في الأرض بأسرها أن ينتقم من كل محتل فاجر، فقد اتسعت المعركة لتشمل الأرض بأسرها، وتناثرت الدماء لتوقظ الأمة بكل أطيافها
استشهد أبو العبد ليُعلم الأمة أن من عاش وقفاً لقضيته، محافظاً على ثوابتها، كافأه الله تعالى بالشهادة في سبيل ما عاش عليه، فمكافاة نهاية الخدمة لأهل الجهاد تكمن في الاصطفاء بالشهادة في سبيله والاجتباء.
استشهد أبو العبد بعيداً عن غزة العزة، ليكون رغم تباعد المسافات شهيداً مع الأطفال الذين اغتالتهم يد الإجرام الدولي، ومع النساء اللواتي هُدمت على رؤوسهن المنازل والملاجئ، ومع الرجال في ميادين المحافظة على الأرض والعرض، ومع المجاهدين في الأنفاق وتحت القصف وفوق الأسنة وفي مقدمة الصفوف، إنها منظومة تضحية وجهاد استحكمت فيها المرافقة فتعذرت عليها المفارقة.
لقد نال أبو العبد ما أراد، ونحسبه خرج من فرن الاختبار إلى عز الجوار، ومن لهيب المعارك إلى رحاب نعيم الممالك، ومن عالم النفاق والخذلان إلى عالم الإنعام والإكرام، فلا يشغلنك موقعه وموقفه، وإنما انشغل بموقعك ومهمتك، انشغل بالهيئة التي ستلقى عليها ربك، وصدقك في حمل الراية، وجهودك لغرسها في أعماق أمة الإسلام، لتكون مع إبراهيم عليه السلام، وتحشر مع الصادقين الذين قال الله فيهم: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) النساء: 69).
اصدق الله في طلب الشهادة؛ يرزقك الله حيث كنت الشهادة، وأعلنها بكل وضوح وجلاء:
سأموت معتصماً بحبل عقيدتي وأموت مبتسماً ليحيا ديني