من أقسى اللحظات على النفس أن تكون بحاجة للشكوى فلا تجد من البشر من يستمع لشكواك، أو تضع عنك بين يديه آمناً بعض أوزار نفسك المثقلة بأحزانها وأوقارها.
إن المرء بحاجة لكي يبكي أحيانًا في خلوة من الناس، وبعيدًا عن أعينهم الفضولية التي يقتلك فيها ذلك الفضول أو البرود أو اللامبالاة إن لم تكن نظرة شماتة تذبح بسكين بارد قبل أن تقتل ألف قتلة، ولكنه يجد نفسه تواقة للبكاء أحيانًا بين يدي شهم عزيز يقدر لدموعك قدرها، ويرتفع عنده قدرك إذ تخصه بالاطلاع على ساعات ضعفك فيكون لحسن ظنك به أهلًا ورداءً.
أنت بحاجة أن تذرف بين يدي إنسان ما، في أوقات ما شيئاً من دموع عينيك، وأنت آمن أن ذلك الصدوق الذي ائتمنته على بعض أسرار ضعفك إن لم يواسك بنظرة حزن، أو دمعة رثاء صادقة، فلن يمتن عليك بتعاطفه معك يوماً حين قادتك قدماك إليه، ولن يتاجر بآلامك ذات مساء أو صباح في أسواق الجحود الزائفة في أزمنة الخداع.
نستطيع أن نبكي وحدنا في الغرف المغلقة، وما أكثر ما نبكي حزناً أو قهراً أو ضيقاً أو شوقاً حين نأمن الرقباء من الناس! لكن هذا البكاء الانفرادي قد لا يشفي الغليل تماماً ولا يمسح عن النفس كل أوضارها، وإن كان يخفف عنها بعض أوصابها وآلامها، لكن أنفع منه أحياناً أن تجد من البشر من يمسح بحنان ورفق تلك الدموع التي تنساب سخينة على خدود عزيزة أبية لا تعرف الضيم ولا تلذه فتكون لمسة ذلك العزيز الحانية هي ترياق الأحزان والآلام جميعاً، فلا تكاد الدموع ترقأ في مآقيها، وتزحف بسمة الأمل والرضا على شفتي من كان يشكو سهام الدهر في جسمه ونفسه قبل قليل، ويجد في حناياه قوة جديدة، وعزماً حديداً لمواصلة التحدي في رحلة الحياة.
نعم، يستطيع المرء أن يبكي طويلًا بين يدي الله في خلوات الليل، وما أحسنه من دواء لأوجاع النفس المرهقة بأوضارها! لكننا بشر نحتاج إلى من نأنس إليه من كل ذي قلب رحيم نجد في نظرات عينيه الصادقة، ولمساته الرقيقة النابضة عزاء وانشراحًا، ولكن أنَّى لنا بأصحاب هذه النفوس النبيلة في زمن أصبح فيه النبل كالكبريت الأحمر كما كان يقال قديماً للشيء شديد الندرة؟!
لقد اعتبر الإمام أبو حامد الغزالي في «إحيائه» الصديق الصدوق الذي تأنس إليه نفسك، وتطمئن وسيلة من وسائل علاج النفس من أوضارها ليس فقط لأنه سينصح لك مخلصاً صادقاً، بل لأنه سيعيرك أذنيه أحياناً حين تحتاج إليه، ويبتسم لك ابتسامة ود معزية حين تكون في أشد الاحتياج إليها، فإذا وجدت صديقًا صدوقًا يمكن أن تودعه دموعك في لحظات ضعفك مطمئنًا فاشدد يدك عليه لأنه كنز ثمين لا يقدر بثمن لو كنتم تعلمون.
لكن الإمام الغزالي كذلك رأى أن أعظم النعم التي يمكن أن يهبك الله إياها هي أن تجد شيخًا صالحًا قد سلك السبيل إلى الله قبلك، وألقى عصا التسيار واطمأنت نفسه إلى ما انكشف لها من حقائق وأسرار الوجود، لكنه عده في زمنه كالكبريت الأحمر، فما بالك بزماننا؟! لكن هذا الشيخ إذا وجدته هو الصدر الأحن الذي يمكنك أن تأمنه لتدفن في صدره أسرارك، وتسكب بين يديه دموعك حين تود نفسك أن تفضي ببعض ما تنوء به من أسرار ودموع، وإنه لعزيز.
إن من أمتع ما يعزينا في رحلة الحياة عن لأوائها وأوصابها أننا نبحث في سيرنا الطويل حيث يممننا عن أشياء كثيرة تقر بها نفوسنا وتستروح وتطمئن، ومنها هذه النماذج الفريدة النادرة التي هي زينة الحياة، وبعض أسرار استقرارها واستمرارها، وهي نماذج عزيزة نادرة -كما أسلفت- لكن النادر ليس معدومًا، ومن سار على الدرب وصل يوماً ما إلى بغيته، وبالله الهداية ومنه التوفيق.