نبدأ بأول واجب من واجبات حامل القرآن ومسؤولية من مسؤولياته، وهو ما بدأ به أئمة الحديث كتبهم لأهميته وأولويته، حيث افتتحوا كتبهم بباب «الإخلاص»؛ ذلك أن الإخلاص روح الأعمال، وعمل بلا روح يولد ميتاً، وحري ألا يقبله الله تعالى، ويرده على صاحبه، ولذا يهزنا هزاً، ويؤزنا إلى الإخلاص أزاً، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة، وذكر فيهم: «ورجل تعلم العلم وقرأ القرآن، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت! ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار».
فيا حامل القرآن، هل بلغك هذا الخبر؟ أوَصَلك مصير بعض من قرأ القرآن وعلَّم العلم؟! لو وقع هذا المشهد أمام عينيك -وهو واقع غداً لا محالة- ثم سألت الله تعالى الرجعة لتراجع إخلاصك، فأجبت إلى طلبك، فماذا كنت فاعلاً؟ وما كنت من أعمالك فاحصاً ومراجعاً؟!
إن الإخلاص عمل قلبي خفي، لا يطلع عليه أحد، لا بشر ولا ملك، ورغم هذا فإن له علامات ومؤشرات، ومقاييس وموازين، تستطيع بها قياس منسوب الإخلاص في قلبك، واستشراف ما ينتظرك من جزاء في الغد، فإن لم تفعل، كانت فجأة الشر في انتظارك يوم الجزاء؛ (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (الزمر: 47).
وكي تتقي أعظم فجأة شر، وتتجنب أعظم صدمة في دنياك، وآخرتك، وكيلا تقول: إنك لم تُنذَر، كانت هذه الكلمات: يا حامل القرآن، النية والإخلاص!
الإخلاص روح الأعمال وعمل بلا روح يولد ميتاً وحري ألا يقبله الله ويرده على صاحبه
أصل الإخلاص أن تقصد بعملك وجه الله تعالى وحده، وألا تشرك مع الله سبحانه في نيتك غيره، فلا ترى مع الله عز وجل أحداً، ولا يزيدك اطلاع الناس على عملك نشاطاً وحماساً، ولا غيبتهم عنك تكاسلاً وفتوراً، وإنما حضور الناس وغيابهم عندك سواء، ومدحهم وذمهم لا يمران على قلبك، فقط على سمعك وأذنك.
فهل تتصور أنك بعد مضي هذا العمر الطويل، وبذل هذه الحسنات التي أفنيت عمرك في تحصيلها أن يطير ثوابك، وتجد محصلة أعمالك صفراً، وأن يجعلها الله هباء منثوراً، فتستوي أنت ومن لم يبذل شيئاً بل تفوقه في العقوبة، وتكون أول من تسعر بهم النار؟!
إن هذا أخطر ما يتهددك، وهو قريب منك ليس ببعيد، ومن خطورته أن أكثر الناس في غفلة عنه، حتى قيل: «أكثركم وقوعاً في الرياء آمنكم له».
وهذه القراءة ليست قراءة عابرة، بل جلسة تحفيز وتخويف، وفصل من فصول مدرسة الترغيب والترهيب، وفقرة لن تنتهي بقراءة هذه الصفحة، وإنما تبدأ بقراءة هذه الصفحة، ويستمر أثرها معك بحسب إيمانك، فإن الخوف يتناسب طردياً مع الإيمان، كلما زاد إيمانك زاد خوفك! وإذا قلَّ هذا قُل هذا: (وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، ولأن تصحب من يخوفك حتى تبلغ مأمنك، خير من أن تصحب من يؤمنك حتى تنالك المخاوف.
فما محبطات الأعمال، وخوارم الإخلاص؟ وما الثقوب التي تخرم قلب العبد، فيتسرب منها إخلاصه؟!
1- فرحك بمدح الناس، وانقباضك من ذمهم: بل إن البعض يغضب إذا لم يمدحه الناس بالقدر الكافي! ويجد في نفسه إذا لم يتلق الإكرام اللائق بـحامل القرآن، وإنما أراد المسكين تعظيم نفسه ورفع قدره عند غيره، فهل تعلَّم القرآن لأجل هذا؟!
قد يقول قائل: وما الضرر أن أنوي نيل الأجر وتحصيل الذكر في آن واحد؟!
والجواب تجده في هذا الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجاهد، يلتمس الأجر ويلتمس الذكر، فقال للسائل: «لا أجر له»، فنزل على إثرها قول الله تعالى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: 110).
من محبطات الأعمال وخوارم الإخلاص فرحك بمدح الناس لك وانقباضك من ذمهم!
2- لا ينسب العلم إلى قائله: وكأنه مصدر المعرفة وحده، والفضل كل الفضل له، وقديماً قالوا: الحر من راعى وداد لحظة، وانتمى لمن أفاده لفظة.
ولو كان مخلصاً حقاً، لا يرجو غير وجه ربه، لما وجد ضيراً في ذكر من علمه، بل سره ذلك.
3- يغار من تلميذه إن تفوق عليه: المخلص يفرح إن تفوق عليه من علَّمه، فإن حسناته غداً يوضع مثلها في ميزانه، فيقدم تلميذه النافع على نفسه، لأنه أنفع للناس، ولا يضيق صدره إذا قدم الناس تلميذه في إمامة أو صدارة.
4- يحب أن يشتهر بالدقة بين الناس لغرض: ومن خوادش الإخلاص لدى حامل القرآن أن ينوي بدقة تصحيحه لقراءة غيره أن يشتهر بالدقة بين أهل القرآن، وأنه لا يدع شاردة ولا واردة إلا أحصاها، بدلاً من أن يكون غرضه من هذا أمانة النقل عن شيخه، فتختلط نيته، ويتبدد ثوابه وطاعته! احذر هذا الفخ!
5- يجيب عن كل ما سئل عنه: فلسانه لا يعرف «لا أدري»، ولا «الله أعلم»، مع ما اشتهر به علماء أهل المدينة أن نصف العلم: لا أعلم.
سأل رجل الإمام مالك عن مسألة، فقال الإمام: لا أحسنها، فقال الرجل: إني ضربت إليك من كذا وكذا، لأسألك عنها، فقال له مالك: فإذا رجعت إلى مكانك وموضعك، فأخبرهم أني قلت: لا أحسنها.
6- يحب أن يقرئ غيره أمام الناس ويتحمس له ويسر به، بينما تفتر حماسته إذا قرأ سراً أو من وراء الأبواب.
7- يتوقف عن نقل العلم إلى غيره ويبخل به، بدعوى أنه لا يوجد من هو أهل لنقل العلم إليه، غافلاً عن وصية النبي صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية».
8- يحب أن يتصدر المجلس، لا أن يجلس حيث ينتهي به المجلس، وليس فقط تصدر المجلس، بل يتصدر المشهد، بحيث لا يحب أن يقضى أمر دون الرجوع إليه وأخذ رأيه.
9- يحب أن يقدمه الناس عند التزاحم على أمر، وأن يخدموه ويسارعوا إلى قضاء حاجته، ناسباً هذا زوراً إلى إكرام القرآن لا إلى إكرام شخصه، ناسياً أن في هذا اعتداء على حقوق الآخرين، بل ولو استأذن منهم لكان هذا بسيف الحياء، ومن هذا كان يحذر سفيان الثوري فيقول: «لأن أطلب الدنيا بطبل ومزمار خير لي من أن أطلبها بالدين».
10- قلة عبادات سِره وخبيئة عمله الصالح: فقيام الليل، وذكر الله خالياً، وصدقة السر في أسفل قائمة أولوياته، رغم أنها الماء الذي يروي شجرة الإخلاص في القلب، ويقضي على جرثومة السمعة والرياء.