سألته وأنا أبتسم:
لماذا تُكنّى بأبي العبد؟
ابتسم هو الآخر، وقال:
- إنه اسم ابني.
- اسمه العبد؟
قال:
- اسمه عبد السلام، وأطلقوا عليه في طفولته العبد، وصارت كنيتي.
كان الشهيد قد دعا هيئة المؤتمر العلمي لرؤساء الجامعات العربية والإسلامية وعمدائها وأساتذتها إلى مأدبة طعام في بيته. انعقد المؤتمر في غزة (يناير 2012م) لمناقشة بعض القضايا المهمة على المستوى الحضاري، وكان أهل غزة سعداء بحضور هذا الحشد من دول شتى، وعدّوه تأييدًا لقضيتهم وتبنيًا لها وتشجيعًا على الصمود في وجه الاستباحة الصهيونية والغربية للوجود الفلسطيني.
كانت المأدبة في مخيم الشاطئ الذي يسكن فيه الشهيد وعائلته وأصهاره مذ تم تهجيرهم من عسقلان وأسدود، دمره اليهود الغزاة القتلة أخيرًا. المخيم عبارة عن بيوت ضيقة متلاصقة متواضعة، بعضها مبني بالحجارة والآخر بالطوب، وعناصر أخرى، واذكر تعليقا للدكتور محمد عباس، حول بيت هنية رئيس الوزراء الفلسطيني، حيث قال: إن بيت أصغر عمدة في أصغر قرية مصرية أفضل من بيت إسماعيل هنية.
نصبوا ما يشبه السرادق للضيوف في مساحة خالية أمام البيت، وانتظمت المائدة على هيئة طاولات خشبية غير مفروشة، فوقها أطباق مستطيلة، لكل ضيف أو مضيف طبق واحد يشمل الأرز(الكبسة) مع قطعة من اللحم، وشيء من المخللات. جاءت جلستي بجوار الشهيد الراحل، أمام كل منا طبقه، وفي المقابل اثنتين من حفيداته- لعل اسمهما رؤى وروان، وكانتا في نحو التاسعة أو العاشرة- هل استشهدت إحداهما في حرب الطوفان وهي طالبة في السنة الأولى بكلية الطب؟ يبدو ذلك.
استغرقنا الحديث عن غزة والتعليم والجامعات، وكان الرجل بسيطًا متواضعًا متفائلًا، مؤمنًا بتحرير القدس، ينضح وجهه بالطيبة والأمل. خطب فينا الجمعة بالمسجد العمري فيما أذكر، وبعد الصلاة استوقفته على الباب عجوز لها مشكلة، فانتحى بها جانبًا وأصغى إليها، وأخذ منها عريضتها وسلمها لأحد مرافقيه منبها بحل مشكلتها فورًا.
حب مصر
لمست فيه حب مصر وعشقها، ولما سألت عن سر ذلك، قيل لي إن والدته مصرية، وأخواله مصريون، وكان من أوائل من زاروا مصر بعد ثورة يناير، وصعد منبر الأزهر الشريف، وألقى خطبة شهيرة، عبرت عن ولعه بأم الدنيا.
كان الرجل مشروع شهيد، وينتظر الشهادة في أية لحظة، ولكنه وهو يفاوض القتلة النازيين اليهود لم يكن مرشحًا للاغتيال فترة التفاوض على الأقل، فهو الذي يملك مفاتيح القرار التفاوضي، ويفترض أن الطرف الآخر مع ما عرف عنه من غدر وخسة وإجرام وازدراء للقانون والعرف، لا يفكر في اغتيال إسماعيل هنية الذي يفاوضه، ولكن العدو بكل خسة ووضاعة اغتاله، ومنحه الشهادة، وقدم نفسه للعالم بأن القتلة اليهود لا عهد لهم ولا ذمة، ولا يوثق فيهم!
عملت الآلة الإعلامية اليهودية والغربية على صرف الأنظار عن الجريمة المخزية، فنشرت التلجراف والنيويورك تايمز قصة غير موثوقة عن الاغتيال بقنبلة داخل دار الضيافة التي كان يقيم فيها الشهيد بطهران، وراحت الآلة العربية التابعة، التي يوجه معظمها المخلفون والقاعدون عن الجهاد، للنقاش حول طريقة الاغتيال: قنبلة أو صاروخ؟
انحراف الحوار
تبارت أدوات الجبن والنفور من الحر في كيفية الاغتيال، وانحرف الحوار حول دور إيران ومسئوليتها عن الاغتيال، وسارع بعضهم إلى اتهام طهران بالتضحية بالشهيد لحساب مصالح خاصة، واشتد الصخب مع تناسي طبيعة المجرم والجريمة.. وصال أصحاب اللحى التايواني من المداخلة وأشباههم وجالوا، في الخلاف بين السنة والشيعة، راحوا يكفرون هذه الجهة أو تلك، وطرحوا سؤالا غريبا: هل يجوز الترحم على الشهيد هنية؟ وهل تجوز الصلاة عليه من جانب الشيعة؟ وذهب بعضهم إلى حد اتهام هنية بالتشيع! ومازال المجرم طليقًا والجريمة قائمة!
أحرار العالم وأصحاب الضمير استنكروا الجريمة وأدانوا المجرم، ولكن أصحاب اللحى التايواني كانوا في واد آخر، وهم الذين لم يبذلوا درهما ولا دينارًا، ولا نقطة دم واحدة من أجل القدس أو فلسطين أو المقاومة، وهم يعلمون جيدًا أن هناك من يسعى للقضاء على المقاومة الإسلامية في فلسطين وهي التي حركت العالم كله، لسبب بسيط لأنها تعتنق الإسلام وتجاهد به، وتقوم عليه.
قصور.. ومليارات
على الجانب الآخر كان خدام الغرب واليهود من المثقفين العلمانيين يؤدون دورًا رخيصًا لا يقل في وضاعته عن دور أصحاب اللحى التايواني، فقد زعموا أن الشهيد الراحل يعيش في قصور فاخرة خارج القطاع مع أهله وأسرته، وتجاهلوا أن قرابة 20 من أبنائه وأحفاده وأخوته وأبنائهم، و80 من باقي عائلته، قضوا بغارات الإجرام النازي اليهودي على أرض غزة، وأنه في الخارج مثل الداخل كان يعيش متواضعًا بسيطًا، لا تعنيه المظاهر والشكليات بقدر ما تؤرقه القضية وتحولاتها، وقد نشرت وسائل التواصل الاجتماعي صورًا له ولبيته من الداخل لا تنبئ عن حياة رجل يعيش حياة مترفة، بل إن حياته لا تصل إلى مستوى موظف بسيط محدود الدخل في المجتمع المصري.
البوق التطبيعي
تأمل ملخص ما يقوله بوق من أبواق التطبيع والخوالف:
باغتيال إسماعيل هنية، يُسدَلُ الستار على «حقبة هنية»، في قيادة الحركة، مثلما أسدل الرصاص الإسرائيلي الستار على حقبة أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، وسيخلف هنية على قيادة الحركة «طاووس حماس» خالد مشعل، تلك الحركة، النابعة من والتابعة لتنظيم الإخوان المسلمين.
وإذا كانت الحقائق تكتب دقيقة (؟)، لم يُعرف لحركة حماس أي نجاح يذكر منذ تأسيسها، سوى نجاحها الوحيد في الانقلاب على السلطة الوطنية الفلسطينية في عام 2007م، ومنذ ذلك الانقلاب ظلت الهزائم مرافقة للحركة، حتى وصلت إلى تقسيم البيت الفلسطيني، وخلق حالات من الصراعات والنزاعات الداخلية. ففي كل من الحروب لم تنتهِ أية مواجهة بانتصار حماس، سواء في فلسطين، أم في قطاع غزة. هكذا ظلت انكسارات حماس ملازمة لأداء حكومة انقلابها في غزة، ولولا الإغاثة التي تقدّمها منظمة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين لكان سكان غزة ضحايا الجوع، والعطش، والأمراض.
ويواصل بوق التطبيع والخوالف مزاعمه:
برحيل هنية، لا بد من تساؤل منطقي: ماذا حقق هنية لشعبه قبل استشهاده في بيت الضيافة في طهران؟ ألم يكن هنية في مقره الاختياري في الدوحة شاهداً على كل العذابات التي يعيشها الغزّيون، الذين يموتون، ويجرحون، ويصابون، ويتم تشريدهم من مكان إلى آخر؟ ماذا فعل من أجل شعبه سوى ترديد نفس الشعارات وإلقاء الخطابات وتقبيل جبين المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي؟
نسي البوق التطبيعي أن الشهيد شهد استشهاد قرابة 80 من أهله وأقاربه، ورأى دماءهم مثل دماء الشعب الفلسطيني، وأن حماس لم تقسم الشعب الفلسطيني، بل قسمه الذين رفضوا نتائج الانتخابات التي جعلت الأكثرية لحماس، ثم إن صاحبنا تجاهل أن حماس والفصائل الأخرى في موقعة الطوفان حركت العالم الغربي والشرقي تأييدًا للشعب الفلسطيني، كما نسي أن العلم الفلسطيني ارتفع في جامعات أوروبا وأمريكا والعالم الحر، وأن الناس عرفوا لأول مرة منذ عقود أن هناك شعبًا يقاتل من أجل الحرية، وليس من أجل اللهو والنوم؟
طوفان الأقصى من أعظم العمليات الجهادية التي جرت لأول مرة على أرض 48، وحققت هزيمة ساحقة لقيادة فرقة غزة الملعونة التي خصصها العدو لقهر الشعب الفلسطيني في القطاع، وأسرت المئات من القتلة النازيين اليهود، وفرضت عليهم إطلاق صفارات الإنذار والنزول إلى الملاجئ.. هناك فرق بين المقاومة من أجل الحرية ومن يستخدمون السلاح لقهر شعوبهم وإذلالها واستعبادها، وهذا ما يتجاهله أبواق التضليل والكذب والجبن العريق!
لقد وصل الانحدار بهؤلاء الخوالف إلى نفي الشجاعة والبطولة عن شعرائنا القدامى الذين كانوا يفخرون ببطولاتهم ومعاركهم أمام خصومهم، ورأوا أنها مرض نفسي لا يعبر عن الواقع، بينما الواقع كان شيئا آخر بالتأكيد!
أربعة مليارات
والأدهى من ذلك أن بعض هؤلاء العلمانيين من خدام الغرب واليهود زعم أن الشهيد يملك أربعة مليارات دولار، وراح يستغفلنا ويقول: اسألوا جوجل (محرك البحث الإلكتروني على الحاسوب)؟
أربعة مليارات دولار يملكها إسماعيل هنية يا مفتر؟
لو كانت معه لاشترى صواريخ متقدمة ومدفعية طويلة المدى، ووفر للمقاومة فرصة أفضل للدفاع عن النفس، وأداة تخيف القتلة النازيين اليهود وتضعهم في موضع الرعب داخل الأرض المحتلة قبل 48.
الرجل البسيط الذي يأكل أكلًا متواضعًا مثل ضيوفه الذين جلسوا بجواره بعيدًا عن مقتضيات المنصب والمكانة، ألم تغيره هذه المليارات الأربعة؟
سخف الاتهام أو الادعاء، يكذبه الواقع لمن يعقل، فالغرب واليهود والوكلاء يعدون المقاومة الإسلامية وزعماءها من الإرهابيين، فهل تقبل بنوك أوروبا وأمريكا واليهود أن يضع إرهابي- كما يزعمون- أربعة مليارات في بنوكهم، ويحتفظ بها ليوم يسحبها ويفيد منها؟
هل يمكن أن يضعها في البنك الفلسطيني بغزة الذي أغار عليه القتلة اليهود في حربهم العدوانية، ووجدوا فيه رصيدا يبلغ مائتي مليون دولار لشعب القطاع نقلوها بعد سرقتها إلى تل أبيب؟
الفرية واضحة الكذب، ولكن الهدف منها صرف الأنظار عن الجريمة والمجرم.. جريمة الاغتيال الخسيسة، والمجرم الذي يتلوث بصفات العار التي تعرفها البشرية..
العين بالعين
كان من المتوقع مثلًا أن تنهض هذه القوى لتبحث في كيفية إقناع القتلة النازيين اليهود أن الاغتيالات منهج ذو حدين يمكن أن يؤدي إلى سلوك مماثل، وأن المقاومين من أجل الحرية يمكنهم أن يستخدموا هذا المنهج، وأن يكون ضحاياه قادة العدو نفسه، بدءا من النتن إلى سيموريتش إلى جالانت إلى بن غفير، إلى كاتس، إلى هاليفي، إلى آخرين من القتلة الحاليين والقدامى، وهذا حق مشروع، يعلن عنه اليهود القتلة أنفسهم: العين بالعين والسن بالسن..
لقد أيد 69% من القتلة الغزاة الذين يحتلون فلسطين سياسة الاغتيالات، أي إن الأكثرية من القتلة النازيين اليهود تؤيد الاغتيالات، وقد اغتالوا منذ تأسيس الكيان الإرهابي الاحتلالي أكثر من 2700 شهيدًا من فئات المجتمع الفلسطيني المختلفة، (ذكرت قائمة طويلة في كتابي فأرسلنا عليهم الطوفان)، عدا من يقتلونهم بالقصف اليومي في البيوت والمدارس والمستشفيات والمساجد والأسواق والشوارع والساحات!
لم تتوقف الاغتيالات عند الفلسطينيين وحدهم، بل تجاوزتهم إلى العرب والمسلمين وخاصة علماء الذرة والكيمياء والطائرات المسيرة الذين استشهدوا في العواصم العربية أو الغرب.
ماذا قدمتم؟
الخوف المدمر لدى الأشاوس والنشامى العرب وجبنهم الشديد إلا على شعوبهم، دفع القتلة النازيين اليهود إلى التمادي في اغتيالاتهم وغدرهم، ولو واجههم الأشاوس والنشامي بمثل ما يفعلون، لتوقفت الاغتيالات على الفور، وأنى للعرب ذلك وأبواق الضلال والجبن وكراهية الإسلام، لا تكف ليلًا ونهارًا عن هجاء المقاومة الإسلامية في فلسطين، واتهامها بالتسبب فيما يحدث للشعب الفلسطيني؟
ونسأل هذه الكائنات ماذا قدمتم لفلسطين؟ وما هي تضحياتكم من أجل المقدسات؟ هل زحفكم على بطونكم لإرضاء اليهود والغرب جهاد لحماية الشعب الفلسطيني وتحرير أرضه؟ إن شيطنة “المقاومة الفلسطينية الإسلامية عمل رخيص، لأن المقاومة تواجه بالنيابة عن الأمة الإسلامية جمعاء إبادة وحشية يقوم بها اليهود النازيون القتلة، والغرب الصليبي الهمجي!
إسماعيل هنية كان نظيفًا، ونزيهًا، وشريفًا، ومؤمنًا بربه وبحق شعبه في الحرية والحياة، قد نجح نجاحًا كبيرًا في قيادة قطاع غزة مدنيًا وجهاديًا، ولم يعرف عنه أنه تاجر بالقضية، أو غرق في البيزنس مع الأعداء، ولم يؤثر عنه أنه أعلن عن رفضه العودة إلى عسقلان، أو إنه بسطار في قدم العدو..
رحم الله الشهيد النزيه، وجعل الفردوس الأعلى مقره ومثواه.