كاتب التدوينة: أ.د أحمد يحيى علي (*)
مدخل:
منطلق الذات الإنسانية في التعامل مع عالمها الذي على أساسه تتحدد هويتها وتتشكل بوضوح ملامحه يقوم على فعل القراءة؛ أي التلقي بدايةً، تلك بداية حتمية تستهل بها الذات رحلة تتخذ أبعادًا عدة في تكونها؛ البعد الزماني بالرحيل في العمر، والبعد المكاني بالانتقال المادي من بقعة إلى غيرها، والبعد الأدائي بالحركة النشطة من فعل إلى آخر، من هذين الوعاءين الأثيرين: القراءة والرحلة بأبعادها الثلاثة تظهر جلية الهوية؛ هوية الإنسان الفرد، وهوية الإنسان المجموع، وهوية العالم الذي يمثل الواقع في تجليه الزماني والمكاني العاكس لحضور هذا الإنسان. ([i])
نحن بصدد نتيجة اسمها الهوية تكشف نسقًا فاعلا كائنًا وراءها؛ هذا النسق الذي يتكون من عنصري القراءة والرحلة، يمثل العلة التي تنشدها كل ذات مفكرة تحاول من خلالها فلسفة موجود مرئي مدرك بالحواس، وهي تقوم باستجلائه في محاولة كشف كنهه، والخروج من وراء صنيعها برؤى تستعين بها في تسجيل موقف أيديولوجي يؤكد حضورها في العالم.
إذًا فإن الوقوف الاستقرائي المتأني أمام ما يسمى بهوية الذات يتطلب بحثًا استكشافيًا في فعل القراءة أو التلقي الخاص بها عبر عدد من البنى التساؤلية:
الأول: من المرسِل؟
الثاني: ما طبيعة المادة المرسَلة؟
الثالث: كيف استقبلت الذات هذه المادة وصاحبها؟
الرابع: ما النتائج المترتبة على هذا الاستقبال؟
الهوية والاختلاف
إن للخبر مراتب حسب طبيعة متلقيه، هذه المراتب تتحدد صياغيًا وفقًا لهذه الحال؛ إذ ليس خالي الذهن كالمتردد الشاك، وليس المتردد الشاك كالمعترض الرافض أو المستهزئ؛ ومن ثم فإن بلاغة المرسِل مردها إلى إدراكه طبيعة المقام الذي يحمل منجزه التعبيري ومن في هذا المقام يستقبل رسالتها. ([ii])
إن الاختلاف سنة كونية جعلها الله سمة للوجود عمومًا، والإنسان جزء منه؛ فإذا نظرنا إلى الأماكن الحاملة للبشر نجد أن النظر إليها يكون من زاويتين:
الأولى: ليس للإنسان دخل أو إرادة في تشكلها؛ ألا وهي الزاوية الطبيعية الجغرافية المحضة؛ فنقول: بيئة جبلية صحراوية أو ساحلية أو جليدية…إلخ.
الزاوية الثانية: الزاوية الاجتماعية الثقافية، من خلال الربط بين المكان في التعاطي معه ودراسته وبين القيم والمعتقدات والأداءات السلوكية لأهله النابعة من ثقافتهم؛ هنا يصير الاختلاف بين مكان وآخر على وجه الأرض محفزًا للبحث والدرس؛ بغية الكشف عن الفاعل الإنساني المسئول عن هذه الصبغة التي تمنح الحيز الذي يسكنه خصوصية بإزاء غيره، وفي ثنايا البحث يكون الاهتمام منصبًا على هذين العنصرين الأثيرين: القراءة أو الاستقبال من ناحية، ثم الرحلة من ناحية ثانية؛ فما يبثه الإنسان إلى عالمه يخرج أولا وثيق الصلة ومترتبًا على ما استقبله وتلقاه منه عبر رحلة متعددة الأبعاد([iii]) كما تم ذكره في البداية.
فعل التلقي في القرآن الكريم
وإذا نظرنا إلى كلام الله (القرآن الكريم) نجد أن التصنيف القاطع للبشر إيمانًا وكفرًا؛ مبعثه فعل التلقي؛ أي العلاقة الجامعة بين المرسِل النبي (المكلف بأداء مهمة التبليغ من ربه) ورسالته ومحتواها من جانب، والجماعة المتلقية المنوط بها أن تكون رد الفعل من جانب ثانٍ؛ إن القرآن الكريم ذلك النص الأكمل على مستوى اللغة نزل إلى قوم أهل فصاحة وبلاغة؛ ومن بين وسائل الإقناع التي يتضمنها؛ لأجل تغيير وجهة المعنيين بنزوله ضرب الأمثلة من خلال ما ورد ذكره من قصص الأنبياء والمرسلين السابقين زمنًا على النبي محمد صلى الله عليه وسلم خاتمهم. ([iv])
وفي مطالعتها نجد أنفسنا بالنظر الشمولي إلى هذه القصص أمام نوع من التلقي هو التلقي المضاد أو الاستقبال السلبي المؤسس على الإعراض والنفور والرفض؛ ومن ثم فإن أزمة الحاضر التي جاء هؤلاء الرسل لمعالجتها لا تكمن فقط في انحراف عن الجادة أو الطريق المستقيم المؤسس على التوحيد والطاعة لله رب العالمين، إنها تزداد بالتمادي في هذه الحال السلبية والإصرار عليها، تبعًا لمبررات ساقوها إلى رسلهم، نلمحها في هذه النصوص من القرآن الكريم سبيل المثال:
” إنَّا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون”([v])
” إنَّا وجدنا آباءنا على أمة وإنَّا على آثارهم مهتدون” ([vi])
” إنَّا وجدنا آباءنا على أمة وإنَّا على آثارهم مقتدون” ([vii])
واتساقًا مع هذا المقام نجد أن مفردتي الكذب والكفر والحمولات الدلالية المتصلة بهما كاشفتان ومحددتان لهذا التلقي السلبي، أو لو شئنا قلنا التلقي المضاد:
“قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ”.([viii])
“كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ”([ix])
“كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ”([x])
“وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ”([xi])
“وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ. إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ”([xii])
“فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ. فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ”.([xiii])
” ولَقَدْ أرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُنْذَرِينَ”([xiv])
إن مسألة التصديق والتكذيب، أو الإيمان والكفر ومثالها ما ورد في القرآن الكريم تفتح الباب واسعًا على فكرة أكثر عمومية تسم الحياة بصفة عامة؛ ألا وهي مسألة الاختلاف، أو التباين، وما المعتقد من حيث الإيمان بالله الواحد الأحد أو عدم الإيمان به إلا علامة رئيسة مبينة لهذه الفكرة، التي منها ننطلق إلى مسلمة الدفع التي تحدث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ”([xv])
ولا يعني ذلك أن التلقي المضاد كان الطقس المسيطر تمامًا على مشهد القصة القرآنية التي تعالج حال الأنبياء قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهناك من تلقى وآمن وكانت الموافقة بالتأييد والقبول هي الحال المميزة للمرسل إليه؛ فقوم يونس عليه السلام بعد تردد آمنوا ووافقوا:
“فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ”([xvi])
إن حرية الإرادة التي منحها الله للإنسان هي المسئولة عن ذلك الاختلاف، الذي يبدأ من المعتقد ثم يتحرك أفقيا ورأسيا ليحيط بحياة العنصر البشري على الأرض إحاطة كاملة:
“وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ”([xvii])
“وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا”([xviii])
“وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ”.([xix])
تعقيب
إننا إذًا أمام مفردات تمثل في مجملها كلمات مفتاحية لمحاولة فهم ما يجري في حياة الذات الإنسانية فردًا كانت أم جماعة في ماضيها وحاضرها والسعي إلى استشراف مستقبلها:
المعتقد
التلقي بشقيه بطرفيه: موافقة، ورفض.
الحرية
البيئة المكانية في تجليها الاجتماعي والثقافي.
الاختلاف
الدفع
الخصوصية التي تعني التميز واختلاف شيء عن غيره.
الهوية
إن الاستقبال من العالم والرحلة بأشكالها في العمر، وفي المكان، وبالأفعال، عدسات نرى من خلالها الاختلاف في أثوابه المتعددة والمتنوعة: عقدية، سياسية، اجتماعية، وفي حقول العلم على كثرتها كمًا وكيفًا وما نرى فيها من تباين في الرؤى والاتجاهات، وفي دفتر يوميات الإنسان وما يكون فيها من اختلاف، وفي البنية الحياتية للإنسان الفرد ونفسه وما يجري عليه فيها من تغير في التوجهات العقلية والعاطفية بما يجعل منه كيانًا متعدد الصور للرائي المتأمل الباحث([xx])؛ لنصل في نهاية المطاف إلى أن الفعل (اقرأ)، أول كلمة نزلت في القرآن الكريم، يمثل أداء سلوكيا يعتمد في إنجازه على إمكانات الإنسان الإدراكية الممثلة في: عقل+ قلب+ جوارح خمسة+ قدرات جسدية أخرى، من هذا الأداء السلوكي ننتقل إلى هذا الملفوظ (الخبرة) التي تتشكل تبعًا لذلك، ومن الخبرة تنزاح عدسة الرؤية أفقيا ورأسيا حيث الحرية والاختلاف والدفع والخصوصية والهوية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أستاذ الأدب والنقد بكلية الألسن جامعة عين شمس ـ مصر.
[i] – انظر: د. أحمد يحيى علي، أيقونة الهوية في الثقافة العربية، ص 7، 8، الطبعة الأولى، 2016م، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.
[ii] – انظر: السيد أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، ص57، المكتبة العصرية، بيروت.
[iii] – انظر: د. أحمد يحيى علي، الخطاب الروائي: احتياجات الواقع ومتطلبات الفن، ص112، 113، الطبعة الأولى، 2021م، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة.
[iv] – انظر: د. أحمد يحيى علي، بلاغة القرآن الكريم في دعوة المرسلين، عدد يناير 2022م، مجلة فكر الثقافية، تصدر عن مؤسسة العبيكان، السعودية.
[v] – الشعراء: الآية: 74
[vi] – الزخرف: الآية: 22
[vii] – الزخرف: الآية: 23
[viii] – الزخرف: الآية: 24
[ix] – الشعراء: الآية: 105
[x] – الشعراء: الآية: 123
[xi] – الحجر: الآية: 80
[xii] – غافر: الآيتان: 23، 24
[xiii] – المؤمنون: الآيتان: 47، 48
[xiv] – الصافات: الآيتان: 72، 73
[xv] – البقرة: من الآية: 251
[xvi] – يونس: الآية: 98
[xvii] – يونس: الآية: 99
[xviii] – الكهف: الآية: 29
[xix] – هود: الآيتان: 118، 119
[xx] – انظر: د. أحمد يحيى علي، فعل الاستقبال وصياغة الشخصية، عدد 182، 2020م، مجلة عالم الفكر، الكويت.