عزة المسلم في 10 أمور

أورد كُتَّاب السير في السنة الرابعة عشرة من الهجرة النبوية الشريفة وفي معركة «القادسية» أن أرسل رستم، قائد الفرس، رسالة إلى سيدنا سعد بن أبي وقاص، قائد جيش المسلمين، يطلب منه أن يرسل إليه أحد المسلمين يحدثه، فبَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدٌ رَسُولًا، وَهُوَ ‌رِبْعِيُّ ‌بْنُ ‌عَامِرٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَقَدْ زَيَّنُوا مَجْلِسَ رستم بِالنَّمَارِقِ الْمُذَهَّبَةِ وَالزَّرَابِيِّ الْحَرِيرِ، وَأَظْهَرَ الْيَوَاقِيتَ وَاللَّآلِئَ الثَّمِينَةَ، وَالزِّينَةَ الْعَظِيمَةَ، وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الثَّمِينَةِ، وَقَدْ جَلَسَ عَلَى سَرِيرٍ مِنْ ذَهَبٍ.

وَدَخَلَ رِبْعِيٌّ بِثِيَابٍ صَفِيقَةٍ وَسَيْفٍ وَتُرْسٍ وَفَرَسٍ قَصِيرَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِبَهَا حَتَّى دَاسَ بِهَا عَلَى طَرَفِ الْبُسَاطِ، ثُمَّ نَزَلَ وَرَبَطَهَا بِبَعْضِ تِلْكَ الْوَسَائِدِ، وَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ سِلَاحُهُ وَدِرْعُهُ وبيضته عَلَى رَأْسِهِ. فَقَالُوا لَهُ: ضَعْ سِلَاحَكَ. فَقَالَ: إِنِّي لَمْ آتِكُمْ، وَإِنَّمَا جِئْتُكُمْ حِينَ دَعَوْتُمُونِي فَإِنْ تَرَكْتُمُونِي هَكَذَا وَإِلَّا رَجَعْتُ. فَقَالَ رُسْتُمُ: ائْذَنُوا لَهُ، فَأَقْبَلَ يَتَوَكَّأُ عَلَى رُمْحِهِ فَوْقَ النَّمَارِقِ فَخَرَّقَ عَامَّتَهَا، فَقَالُوا لَهُ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ: إن اللَّه ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمِنْ ضيق الدنيا إلى سِعَتِهَا، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ، فَأَرْسَلَنَا بِدِينِهِ إِلَى خَلْقِهِ لِنَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَبِلَ ذَلِكَ قَبِلْنَا مِنْهُ وَرَجَعْنَا عَنْهُ، وَمَنْ أَبَى قَاتَلْنَاهُ أَبَدًا حَتَّى نُفْضِيَ إِلَى مَوْعُودِ اللَّهِ. قَالُوا: وَمَا مَوْعُودُ اللَّهِ؟ قَالَ: الْجَنَّةُ لِمَنْ مَاتَ عَلَى قِتَالِ مَنْ أَبَى، وَالظَّفَرُ لِمَنْ بَقِيَ.

فَقَالَ رُسْتُمُ: قَدْ سَمِعْتُ مَقَالَتَكُمْ فَهَلْ لَكَمَ أَنْ تُؤَخِّرُوا هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى نَنْظُرَ فِيهِ وَتَنْظُرُوا؟ قَالَ نَعَمْ! كَمْ أَحَبُّ إليكم؟ يوماً أَوْ يَوْمَيْنِ؟ قَالَ: لَا، بَلْ حَتَّى نُكَاتِبَ أَهْلَ رَأْيِنَا وَرُؤَسَاءَ قَوْمِنَا. فَقَالَ: مَا سَنَّ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نُؤَخِّرَ الْأَعْدَاءَ عِنْدَ اللِّقَاءِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَانْظُرْ فِي أَمْرِكَ وَأَمْرِهِمْ وَاخْتَرْ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ الْأَجَلِ، فَقَالَ: أَسَيِّدُهُمُ أَنْتَ؟ قَالَ! لَا: وَلَكِنَّ الْمُسْلِمُونَ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ يُجِيرُ أدناهم على أعلاهم. فاجتمع رستم برؤساء قَوْمِهِ فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتُمْ قَطُّ أَعَزَّ وَأَرْجَحَ مِنْ كَلَامِ هَذَا الرَّجُلِ⁽¹⁾؟

إنها عزة المسلم، التي تنبع من عقيدته وإيمانه بربه، وثقته في دينه ورسالته، إنها القوة والصلابة والشدة والمنعة والنصرة التي تسعى إلى إعزاز هذا الدين ورفعة شأنه وأهله عن مواضع الإهانة والذل، وهذه العزة هي ثمرة الالتجاء إلى الله تعالى، فهو العزيز الذي لا يُغلَب، وهو صاحب العزة وحده لا شريك له.

قال عز وجل: (إِنَّ ‌الْعِزَّةَ ‌لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (يونس: 65)، وقال تعالى: (‌وَلِلَّهِ ‌الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: 8)، فعزة الله هي المصدر الذي اعتز به رسوله والمؤمنون من عباده، قال تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ ‌فَلِلَّهِ ‌الْعِزَّةُ جَمِيعًا) (فاطر: 10)، والله يعز من يشاء ويذل من يشاء، قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ ‌مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: 26).

فإذا كانت العزة لله تعالى، يعز بها أنبياءه وأولياءه والصالحين من عباده، فهي عزة لا غرور فيها ولا كبر، فالغرور مذموم في الإسلام، ومن اعتمد في عزته على الغرور والكبر فإنه ينتسب إلى غير صفات أهل الإيمان، حيث قال تعالى: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي ‌عِزَّةٍ ‌وَشِقَاقٍ) (ص: 2)، وقال سبحانه: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ ‌الْعِزَّةُ ‌بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) (البقرة: 206)، أما عزة المؤمن فهي التزود بقوة الله والسمو عن كل ما يغضب الله، والسعي لتحقيق الخير الذي أراده الله سبحانه وتعالى، ولهذه العزة فوائد متعددة، منها⁽²⁾:

أولاً: العزة صفة المؤمنين، قال تعالى: (‌وَلِلَّهِ ‌الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).

ثانياً: العزة مظهر من مظاهر الرّجولة والشّهامة، فالرجل يعتز برجولته وكرم أخلاقه وسمو نفسه، أما الذليل فإنه ينحاز إلى الضعف والسفه في القول والفعل.

ثالثاً: العزة تورث العفّة والنّزاهة؛ فالعزيز كريم النفس عفيف عن كل ما ليس له، لا يتطلع إلى حاجات الناس، بل يفخر بما آتاه الله، وينسب كل الفضل إليه سبحانه وتعالى.

رابعاً: العزة تحقق النصرة والرفعة؛ قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ {20} كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة)، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثنائه على الله يقول: «إنَّهُ لا يذلُّ من واليتَ، ولا يعزُّ من عاديتَ، تبارَكتَ ربَّنا وتعاليتَ»⁽³⁾.

خامساً: العزة تنمّي الفضيلة وتمحق الرّذيلة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ {41} لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت).

سادساً: بالعزة تستجلب المكارم وتستدفع المكاره؛ قال عز وجل: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ ‌يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر: 10).

سابعاً: العزة دليل على الثّقة بالله العزيز؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ {208} فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة).

ثامناً: العزة صفة المحبوبين لله رب العالمين؛ حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‌أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (المائدة: 54).

تاسعاً: بالعزة يستجلب العون من الله، فالله هو العزيز، يعز من طلب منه ذلك إذا أقبل عليه سبحانه وتعالى.

عاشراً: العزة من مكارم صفات الإسلام، فقد أولاها الإسلام منزلة كبيرة، ودعا إلى التربية عليها والتخطيط لاكتسابها والتحلي بها.

إن عزة المسلم نابعة من إيمانه بربه العزيز وكتابه العزيز ورسوله العزيز وأمته العزيزة، حتى تحيط به العزة من كل جانب، فيتحلى بالعزة ويتمسك بالكرامة، فيسعد في الدنيا والآخرة.

_______________

(1) البداية والنهاية، ابن كثير (7/ 46).

(2) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (7/ 2820).

(3) أخرجه أبو داود (1425) والترمذي (464).