لم ينسَ الغرب ولا جحافل الحروب الصليبية يومًا أنه بعد ظهور الإسلام استطاعت جيوشه العتيدة على تحطيم جبروت الدولة البيزنطية وطغيانها في بلاد الشام وتهديد الإمبراطورية البيزنطية بالزوال، ولم ينسَ الغرب جيوش المسلمين وهي تفتح إسبانيا وتقيم فيها حضارة عريقة لمدة سبعة قرون، ولم ينسَ الغرب أن القوة البحرية للحضارة الإسلامية هي التي سيطرت على البحر المتوسط وجعلته بحيرة إسلامية وحصرت أوروبا خلف شطآنها.
ولم ينسَ هؤلاء أن المسلمين دخلوا جنوب فرنسا حتى منطقة الريفيرا وجنوب إيطاليا وامتد نفوذهم إلى شمالها حتى جنيف عاصمة سويسرا وبقوا سادتها أربعين سنة، كما وأن المسلمين لو انتصروا في معركة «بلاط الشهداء» لكانت أوروبا اليوم تدين بالإسلام، وهذا اليوم اعتبره أحد شعراء البلاط الفرنسي «أسود يوم في تاريخ أوروبا، لأن العرب لم ينتصروا فيه»! كما ذكر أحد المستشرقين أن عبدالرحمن الغافقي لو انتصر في معركة «بلاط الشهداء» لما عاشت أوروبا ظلمات القرون الوسطى!
وخلال القرون الماضية، شهدت أوروبا والغرب عموماً تقدماً هائلاً في مجالات العلم، والتكنولوجيا، والاقتصاد، والسياسة، وحدثت طفرة حتى على المستوى الفكري وراجت مقولة تقدم الغرب، في حين شهد العالم العربي والإسلامي تراجعًا نسبيًا في هذه المجالات، هذا التباين أثار تساؤلات حول الأسباب الكامنة وراء هذا الفارق في التطور.
لم يكن الصراع قبل الإسلام بين الغرب والشرق يحمل أي بُعد ديني، لأن كلا الطرفين كان وثنياً، إنما كان صراعاً لاحتلال الأرض واستعباد الشعوب، وبسط السلطان وتوسيع رقعة الإمبراطورية جغرافياً، ولم يكن الخطر في أحد الطرفين على الآخر يكمن في قوته الفكرية أو الحضارية، لكن في قوته العسكرية، فقد كان الغزو يتم عسكرياً وينتهي عسكرياً، أما بعد الإسلام فقد أضيف للصراع بُعد أقوى من القوة العسكرية؛ وهو البُعد المنهجي (الأيديولوجي) المتمثل في الإسلام كدين عالمي، ومنهج حياة، وفي البُعد الحضاري المنبثق عن رسالة الإسلام الإنسانية المعالم والأبعاد، التي لم تستهدف من فتوحاتها للبلاد الأخرى ما كان يستهدفه المحتلون سابقاً، من احتلال للأرض واستعباد للشعوب، لكن استهدفت تحرير الإنسان من عبودية الإنسان، ومن القيود والأغلال التي أثقلت كاهله نتيجة فقدان المنهج الذي يحترم إنسانية الإنسان وكرامته، الذي ينظم علاقة الإنسان بالإنسان، ويحفظ التوازن في هذا الكون، ومن هنا يجب أن ندرس العوامل التي أسهمت في تقدم، بل ونجاح الغرب لكي نكون على بينة من الأمر.
العوامل التي أسهمت في تقدم الغرب
1- الثورة العلمية والتنوير:
– العلم والتجربة: أحد أهم الأسباب وراء تقدم الغرب هو ظهور الثورة العلمية في القرن السابع عشر، التي غيرت جذريًا طريقة التفكير العلمي، وارتكزت هذه الثورة على التجربة والملاحظة بدلًا من التفسيرات الدينية البحتة.
– عصر التنوير: في القرن الثامن عشر، قاد عصر التنوير إلى تطور الفكر الفلسفي والسياسي؛ مما ساهم في تعزيز الحرية الفكرية، والدعوة إلى حقوق الإنسان، والحكم الديمقراطي.
2- النظام الاقتصادي الرأسمالي:
– التجارة والاستعمار: الغرب اعتمد على التجارة الدولية والاستعمار لتأمين المواد الخام والأسواق لمنتجاته، هذا أدى إلى تراكم الثروة، التي استُثمرت في تطوير الصناعات والبنية التحتية.
– الثورة الصناعية: في القرن التاسع عشر، قادت الثورة الصناعية إلى تحويل الاقتصادات الأوروبية من الزراعة إلى الصناعة؛ مما أدى إلى زيادة الإنتاجية وتعزيز الرفاهية.
3- الاستقرار السياسي والقانوني:
– الديمقراطية وحكم القانون: أنظمة الحكم الديمقراطية في أوروبا ضمنت سيادة القانون، والحريات الفردية، وحقوق الملكية؛ مما شجع على الابتكار والاستثمار.
– التعليم والتطوير البشري: استثمر الغرب بشكل كبير في التعليم؛ مما أدى إلى خلق طبقات مثقفة وقادرة على قيادة التطور.
4- الاستثمار في البحث والتطوير:
– المؤسسات العلمية: تأسيس الجامعات والمراكز البحثية المتخصصة ساهم في تعزيز المعرفة العلمية والتكنولوجيا.
– الشركات والاستثمار في التكنولوجيا: الشركات الغربية استثمرت في التكنولوجيا والابتكار؛ مما قاد إلى تطور هائل في العديد من المجالات.
لكن عن سؤال الفشل العربي والإسلامي وكيف انحلت رابطة تلك الحضارة فأصبحت كالفريسة وسط الذئاب، نقول: إن أسباب فشل العرب والمسلمين في تحقيق تقدم مماثل يرجع إلى عدة عوامل أهمها:
1- الجمود الفكري والتقليد:
– غياب الاجتهاد والتجديد: في الفترات المتأخرة من الحضارة الإسلامية، سادت روح التقليد والجمود الفكري، حيث تم تهميش الاجتهاد والتجديد، وانحصر الفكر الديني في تفسير النصوص القديمة دون محاولة مواكبة التغيرات الاجتماعية والسياسية.
– عدم الاستفادة من الثورة العلمية: بينما كان الغرب يشهد ثورات علمية، بقي العالم الإسلامي معزولًا نسبيًا عن هذه التطورات.
2- التدهور السياسي:
– الاستبداد والتفكك: ساد الحكم الاستبدادي في العديد من الدول الإسلامية؛ مما أدى إلى ضعف الدولة، وانتشار الفساد، وتفكك المجتمعات.
– الاستعمار والتبعية: تعرض العالم العربي والإسلامي لفترات طويلة من الاستعمار؛ مما أدى إلى استنزاف موارده وتبعيته للغرب.
3- التراجع الاقتصادي:
– الاعتماد على الاقتصاد الريعي: اعتمدت العديد من الدول العربية والإسلامية على الاقتصادات الريعية، مثل النفط، دون تطوير البنية الصناعية أو الزراعية.
– ضعف التعليم والتدريب المهني: لم يُعطَ التعليم والبحث العلمي الأولوية في العالم العربي والإسلامي؛ مما أدى إلى ضعف القوى العاملة وانخفاض مستويات الابتكار.
4- التشتت والصراعات الداخلية:
– الصراعات الطائفية والإقليمية: العالم الإسلامي يعاني من العديد من الصراعات الطائفية والإقليمية التي أدت إلى تدمير البنية التحتية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
– غياب الوحدة: في حين أن أوروبا وحدت قواها من خلال الاتحاد الأوروبي، لا يزال العالم العربي والإسلامي متفرقًا سياسيًا وجغرافيًا.
5- الانبهار بالحضارة الغربية:
– التنوريون الجدد: ظهور مجموعة كبيرة من المفكرين المنبهرين بالحضارة الغربية وانتشارهم كأدوات زرعتها أجهزة الغرب الاستعمارية لما يعرف بظاهرة التنويرين الجدد.
– العلمانية المتطرفة: ظهور تيار منبطح لتعاليم الغرب واتهام كل ما يأتي من الحضارة العربية بالتخلف والتراجع والتطرف والتشدد، وبالتالي الغرب هو المرشح الوحيد لأدوات التقدم التكنولوجي الحقيقي وليس المزيف.
نخلص في النهاية إلى أن تقدم الغرب وفشل العرب والمسلمين يعود إلى عوامل متعددة تشمل التطورات العلمية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، بينما استثمر الغرب في التعليم، والبحث العلمي، والحكم الديمقراطي، فإن العالم الإسلامي تأخر بسبب الجمود الفكري، والاستبداد السياسي، والاقتصاد الريعي.
الحلول تكمن في تبني إصلاحات شاملة في التعليم، وتعزيز الابتكار، والدفع نحو الحكم الرشيد، فالعالم العربي والإسلامي لديه الفرصة للتعلم من التجارب الغربية وإعادة بناء مجتمعاته بما يتوافق مع قيمه ومصالحه.